يوجد أمة عندها من الاختلاف في دينها كما عند النصارى في دينهم، وخلافهم لا يكاد
ينحصر، وقد بدأ حول شخص المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-، وحقيقة الرب سبحانه
وتعالى، وروح القدس، وتشعب إلى كل فروع دينهم، ولا يوجد فرقة منهم إلا وهي تكفر
الأخرى، وتلعنها.
1- الموحدون:
فمنهم من قال إن المسيح عيسى بن مريم هو رسول الله فقط لم
يزد على أنه رسول الله خلق بأمر الله، وكلمته كن، وهو روح الله، أيده بالمعجزات، وأرسله إلى بني إسرائيل، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، وهذه عقيدة النصارى الأول الذين سلط قياصرة الروم
العذاب عليهم، وأحرقوا
كتبهم، وأناجيلهم، واضطهدوهم حتى أبادوهم إلا قليلاً، وهذه الطائفة المؤمنة هي التي يوافق اعتقادها
اعتقاد أهل الإسلام، وما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن كقوله
تعالى:
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى
الله، قال
الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين
آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين }.
فالحواريون الذين وصفهم الله بأنهم (أنصار
الله)، والفئة التي آمنت
من بني إسرائيل وأظهرها الله بحجتها، ودعوتها إلى التوحيد هم المؤمنون
حقاً بعيسى بن مريم -عليه السلام-.
ولقد تناقضوا بعد عيسى إلى ظهور النبي محمد صلى الله عليه
وسلم، وذلك للاضطهاد
العظيم الذي وقع عليهم، وخاصة بعد أن
دخل قسطنطين القيصر الروماني في النصرانية وفرضها في ممالك الدولة الرومانية
الواسعة ولكنها فرضها -يوم فرضها- وثنية إلحادية كافرة كما جاء في مجمع نيقية الأول
المنعقد في سنة 325م، والذي وضع فيه
(الأمانة النصرانية) التي هي في حقيقتها أعظم خيانة لدين المسيح -عليه السلام- حين
غير الدين الحق عقيدة،
وشريعة، وفرض
ديناً باطلاً يقول بأن المسيح إله حق من إله حق وجد مع الأب منذ
الأزل.
اندراس التوحيد والدين الحق بسبب الاضطهاد وإحراق
الكتب:
وبفعل الاضطهاد الشديد للقائلين
بالتوحيد، ومنكري ألوهية
المسيح بدأ الدين الصحيح يندرس شيئاً فشيئاً، فقد أحرقت الأناجيل الصحيحة، وكتب هذه الطائفة، وفرض الدين الباطل بقوة السلاح
والقانون.
وهكذا بدأ يتناقض أهل الإيمان الصحيح من النصارى حتى إذا بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يكن قد بقي منهم إلا عدد قليل كما قال صلى الله عليه
وسلم: [ إن الله نظر إلى
أهل الأرض قبل أن يبعثني فمقتهم عربهم، وعجمهم إلا غبرات من أهل
الكتاب ].
ومن هؤلاء الذين أدركهم الإسلام، وكانوا على الحق النجاشي ملك الحبشة الذي تليت
عليه الآيات الأولى من سورة مريم في شأن عيسى -عليه السلام- فأخذ عوداً من القش
وقال: لم يزد عيسى بن مريم على هذا ولا مثل هذه (أي العود)، فأنكرت بطارقته
ذلك.
ولكنه بقي مؤمناً موحداً، ومات على ذلك، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليه يوم مات.
2- مقالة آريوس:
ومنهم من رأى أنه ابن الله، ولكنه مخلوق مصنوع، وهذه مقالة آريوس الذي كان يقول:
( الأب وحده
الله، والإبن مخلوق
مصنوع، وقد كان الأب ولم يكن
الإبن )، واتبع مقالة آريوس جمع عظيم من النصارى في
مصر، وفلسطين، ومقدونية، والقسطنطينية ولكن بطريرك الإسكندرية عمد إلى لعن
آريوس هذا، وطرده وزعم أنه رأى المسيح
في النوم مشقوق الثوب فقال له: يا سيدي من شق ثوبك؟ فقال له: آريوس!! وبهذه الرؤيا
المكذوبة أصدر حكمه بوجوب طرد آريوس،
ولعنه وإخراجه من الكنيسة، ولكن آريوس لم يستسلم واستمر في نشر
دعوته في أماكن كثيرة وزاد أتباعه في كل مكان.
اختلاف النصارى حول حقيقة المسيح وعقد مؤتمر نيقية سنة 325م
:
ومن أجل ذلك عقد قسطنطين مؤتمر نيقية سنة 325م من أجل الرد
على مقالة آريوس.
يقول ابن البطريق :
(
بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطاركة، والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من
الأساقفة، وكانوا مختلفين في
الآراء، والأديان، فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون
الله، وهم البربرانية، ويسمون الريميتين، ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة
نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية
منها، وهي مقالة سابليوس، وشيعته، ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة
أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر
الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في
أذنها، وخرجت من حيث الولد من
ساعتها، وهي
مقالة البيان وأشياعه.
ومنهم من كان يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد
منا في جوهره، وإن ابتداء الإبن
من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصاً
للجوهر الأنسر صحبته النعمة الإلهية،
وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي
ابن الله، ويقولون إن الله جوهر قديم
واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك
أنطاكية، وأشياعه، وهم البوليقانيون، ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم
تزل، صالح، وطالح، وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح
وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشرة أسقفاً.
أ.هـ
ولما وجد قسطنطين أنهم مختلفون في حقيقة المسيح على هذا
النحو، اختار من
المجتمعين ثلاثمائة وثمانية أسقفاً من الذين ارتضى مقالتهم في ألوهية
المسيح، وعقد لهم مجلساً
خاصاً، وأصدروا القرارات التي أعلنت
ألوهية المسيح -عليه السلام- أنه موجود في الأزل من جوهر أبيه، وأصدروا ما سموه (بالأمانة)
المسيحية، وقد
كان هذا -كما أسلفنا- أعظم خيانة للدين الذي بعث به المسيح -عليه
السلام-.
وهكذا استطاع قسطنطين أن يجعل دين القلة وهم الثلاثمائة
وثمانية عشر أسقفاً هو الدين الرسمي، وينفي ويضطهد الكثرة المخالفة لألوهية
المسيح، وزاد قسطنطين أن أعطى
خاتمه، وسيفه إلى هؤلاء، وسلطهم على من يخالفهم في
الاعتقاد، هذا مع
أن قسطنطين هذا لم يعلن الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش
الموت.
وهكذا نشأ الحكم الكهنوتي الذي يحتكر فهم
الدين،
وتفسيره، ويحرم من الجنة من
يخالفه، ويطرد من الكنيسة والنصرانية
ما يضاده، وكان هذا من أعظم البلاء
على دين النصرانية حيث فرض عليهم الإنحراف، والخروج على تعاليم المسيح -عليه
السلام-، وأمر
هذا المجمع بتحريق جميع الكتب التي تخالف العقيدة التي خرج بها مجمع
نيقية.
وهذا هو نص ما سماه النصارى (بالأمانة) وهي القرارات التي
خرج بها المجمع الأول:
(الأمانة) النصرانية:
1- نؤمن بإله واحد، الله الأب، ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، ما يرى وما لا
يرى.
2- ونؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من
الأب قبل كل الدهور، نور من
نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الذي به كان كل
شيء.
3- الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاص نفوسنا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء
تأنّس.
4- وصلب عن البشر على عهد بيلاطس
البنطي،
وتألم،
وقبر.
5- وقام من الأموات في اليوم الثالث كما في
الكتب.
6- وصعد إلى السماوات وجلس على يمين
الأب.
7- وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء، والأموات، الذي ليس لملكه
انقضاء.
ولأن هذه (الأمانة) هي خلاصة المعتقد الذي فرضته الكنيسة
المؤيدة بالسلطان، وجعلت من لا يؤمن
بها كافراً خارجاً من دين المسيحية،
فإنها فرضت كذلك تلاوته في بداية كل قداس وصلاة، وفرضت حفظها وتلاوتها على كل
مسيحي.
الخلاف حول روح القدس ومقالة
(مقدونيوس):
خرج مجمع نيقية الأول سنة 325م كما ذكرنا بألوهية
المسيح، ولم يتعرض لحقيقة
روح القدس، وقام في النصارى من يقول
إن روح القدس ليس بإله وإنما الإله هو الأب والإبن فقط -في زعمهم- وكان صاحب هذه
المقالة رجل يقال له (مقدونيوس)، فخشي
أصحاب التأليه منهم أن تنتشر هذه المقالة، وتمتد إلى القول بأن المسيح كذلك مخلوق
مصنوع، فعقد من أجل ذلك مجمع في مدينة
القسطنطينية، اجتمع فيه (150) مائة
وخمسون أسقفاً،
وقام فيهم بطريرك الإسكندرية (ثيموثاوس) قائلاً:
(ليس لروح القدس عندنا معنى إلا أنه روح
الله، وليس روح الله
شيئاً غير حياته، فإذا قلنا روح القدس
مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإن
قلنا إن حياته مخلوقة فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا
به، ومن كفر به
وجب عليه اللعن).
واتفق الحاضرون بعد هذه المقالة على لعن (مقدونيوس) الذي
قال بأن روح القدس مخلوق، وليس هو الإله، وطردوا كذلك جميع البطاركة الذين
يقولون بمقالته.
وزاد الحاضرون على ما يسمونه بالأمانة التي خرجت عن المجمع
الأول: (ونؤمن بروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والإبن وروح
القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص وحدية في التثليث وتثليث في
وحدية، كيان واحد في ثلاث
أقانيم، إله واحد، جوهر واحد، طبيعة
واحدة).
ولا يخفى ما في هذه الأقوال من التخبط
والضلال، والمقصود هنا بيان
الاختلاف في دينهم، وعقيدتهم.
ومثل هذا الكلام الذي لا يستند إلى نص في
الإنجيل، أو
التوراة، ولا إلى عقل صحيح يفرق بين
الخالق والمخلوق، وبين الرب الإله
خالق السماوات والأرض، وبين
مخلوقاته، ومصنوعاته، ومخترعاته كروح القدس الذي هو جبريل، وعيسى -عليه السلام- الذي خلقه من أنثى بلا
ذكر، أقول مثل هذا الكلام ما كان
ليجتمع الناس عليه إلا بالتقليد،
والإرهاب، وهذا
ما فعلته الكنيسة.
مقالة نسطور ومجمع أفسس الأول سنة 431م:
ولما استقرت العقيدة النصرانية عبر المجامع الأولى على
القول بالتثليث: في الأب والإبن، وروح القدس، قام بطريرك القسطنطينية (نسطور)، فأعلن التفريق بين الأقنوم والطبيعة فقال: الأقنوم
هو الأب، وهو الإله، وأما الطبيعة فهو الإنسان، وهو المسيح، ومريم ولدت الإنسان ولم تلد الإله، فهي أم الإنسان، وليست أم الإله، وقال: (إن المسيح متحد مع الله
بالمحبة، وآخذ
منه بالألوهية).
وقامت قيامة الكنيسة لذلك، ورأت أن هذا البطريرك (نسطور) قد جاء بهرطقة
(الهرطقة في لغة النصارى معادلة لمعنى البدعة والإلحاد عند المسلمين) وإلحاد لأنه
بذلك أنكر ألوهية المسيح، وادعى أنه
فقط إنسان مملوء من البركة، والنعمة
فهو رسول من الله ملهم لم يرتكب خطيئة، وبهذا رفع نسطور المسيح شيئاً فوق مرتبة
الإنسانية، ولم يقل إنه بذاته إله مع
الله، أو متحد
بالله.
ومن أجل ذلك انعقد مجمع في مدينة أفسس سنة
431م، وخرج بالقرار
الآتي: (إن مريم العذراء والدة الله،
وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف
بطبيعتين، متوحد في
الأقنوم)، ثم لعنوا
نسطوراً، وأخرجوه من رحمة
الكنيسة، والدين النصراني ولكنه ذهب
يدعو إلى مذهبه فتبعه كثيرون في نصيبين، والعراق، وأرض
الجزيرة.
ثم نشأ خلاف جديد حول كيفية اجتماع الإله مع
الإنسان، أو ما يسمونه التقاء اللاهوت بالناسوت..
هل أصبح بعد ذلك في عيسى -عليه السلام- طبيعة واحدة؟ أم
طبيعتان منفصلتان؟ وكيف أصبح عيسى -عليه السلام- إلهاً كاملاً؟ وإنساناً كاملاً؟
كيف؟
مقالة (ديسقورس) بطريرك الإسكندرية وإعلان الطبيعة الواحدة
للمسيح ومجمع أفسس الثاني:
وخرج بطريرك الإسكندرية (ديسقورس) برأي خالف فيه ما خرج به
المؤتمرون في مجمع أفسس الأول وهو أن للمسيح طبيعة واحدة لا طبيعتين
منفصلتين، وأن المسيح قد امتزج فيه اللاهوت بالناسوت كما يمتزج النار
بالحديد.
وقام بطريرك القسطنطينية معارضاً لهذا
القول، ووصل الخلاف أن
أمرت ملكة الرومان في ذلك الوقت بانعقاد مجمع لمناقشة هذا
الأمر، فانعقد
مؤتمر (خليكدونية سنة 451م) وخرج بالقرار الآتي:
"إن مريم العذراء ولدت إلهنا، ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة
الإلهية، ومع الناس في الطبيعة
الإنسانية، وشهدوا أن للمسيح
طبيعتين، وأقنوماً واحداً ووجهاً
واحداً، ولعنوا نسطوراً، ولعنوا ديسقورس، ومن يقول
بمقالتهما":
ونفي ديسقورس (بطريرك الإسكندرية) إلى
فلسطين، فدعا
لدعوته، هناك فاتبعه جمهور أهل
فلسطين، وبيت
المقدس.
وانشقت تبعاً لذلك الكنيسة المصرية عن الكنيسة
الأوربية، وكان سبب الإختلاف كما أسلفنا حول المسيح طبيعة واحدة أم
طبيعتان؟
ولقد لخص صاحب كتاب تاريخ المسيحية في مصر عقيدة الكنيسة
المصرية فقال: "كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من
كيرلس،
وديسقورس، ومعها الكنائس الحبشية
والأرمنية، والسريانية الأرثوذكسية
تعتقد بأن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الإبن، وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني أي أقنوم الإبن تجسد من الروح
القدس، ومن مريم العذراء، فصير هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتية جوهرية
منزهة عن الاختلاط، والامتزاج
والاستحالة، بريئة من
الإنفصال، وبهذا الاتحاد صار الإبن
المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين، ومشيئة
واحدة".
القول بالمشيئة الواحدة وانفصال
المارونية:
ظهر في سوريا راهب يسمى يوحنا مارون في القرن السابع كان
يقول بالمشيئة الواحدة، مع قوله بالطبيعتين، وخالف بذلك قرارات المجامع السابقة التي تقول
بطبيعتين ومشيئتين، فاجتمع من أجل ذلك
المجمع السادس بمدينة القسطنطينية سنة 680م، وأقر لعن من قال بأن للمسيح مشيئة
واحدة، كما لعن
وكفر وقطع من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة وخرج بالقرار
الآتي:
"إننا نؤمن بأن الواحد من الثالوث الإبن الوحيد الذي هو
الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب الإله في أقنوم واحد، ووجه واحد، يعرف تاماً بناسوته، تاماً بلاهوته في الجوهر الذي هو ربنا يسوع المسيح
بطبيعتين تامتين،
وفعلين، ومشيئتين
في أقنوم واحد".
كما شهد المجمع الخلقيدوني سنة 451م: "أن الإله الإبن في
آخر الأزمان اتخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسداً إنسانياً بنفس ناطقة
عاقلة، وذلك برحمة الله
محب البشر، ولم يلحقه في ذلك اختلاط
ولا فساد، ولا فرقة ولا
فصل، ولكن هو واحد يعمل ما يشبه
الإنسان أن يعلمه في طبيعته، وما يشبه
الإله أن يعمله في طبيعته، الذي هو
الإبن الوحيد، الكلمة الأزلية
المتجسدة التي صارت بالحقيقة لحماً،
كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن تنتقل من مجدها الأزلي، وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين، ومشيئتين وطبيعتين إله وإنسان، وبهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة
صاحبتها، فتعملان
بمشيئتين غير متضادتين".
الاختلاف حول منشأ انبثاق روح القدس وانفصال الكنيسة
الشرقية عن الكنيسة الغربية:
علمنا أن المجمع الأول قرر ألوهية
المسيح، ولعن وكفر من يقول
بغير ذلك، ثم جاء المجمع الثاني وقرر
ألوهية روح القدس وأنها جزء من ثلاثة أجزاء -كما يدعون- ثم جاء المجمع الثالث فقرر
أن المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله (اللاهوت والناسوت كما يقولون) وأنه ليس
إنساناً فقط وأن مريم -عليها السلام- ولدت الإله، والإنسان، وجاء المجمع الرابع فقرر أن المسيح له طبيعتان
منفصلتان لا طبيعة واحدة، ومشيئتان
كذلك، وعلمنا أن الكنيسة المصرية
انفصلت عن كنيسة أوربا لقولها بالطبيعة الواحدة، والمشيئة الواحدة، وانفصلت الكنيسة المارونية السورية لقولها
بالمشيئة الواحدة، والطبيعتين.
وعلى مدار سبعة مجامع آخرها مجمع نيقية الثاني سنة 787م لم
تناقش وتطرح قضية (كيفية وجود روح القدس) الذي قرروا أنه جزء أو أقنوم من الرب
المثلث -عندهم- وهل روح القدس هذا كان وجوده مع الأب؟ أم أن وجوده متأخر عن وجود
الله؟! وهل وجد روح القدس من الأب وحده، أم من الإبن وحده، أم منهما جميعاً، أم أنه واجب
بذاته..؟!
وجاء بطريرك القسطنطينية (فوسيوس) وأثار فكرة روح
القدس، وحكم بأن روح
القدس إنما انبثق (هكذا) من الأب وحده، فتصدى له بطريرك روما قائلاً: إن روح
القدس انبثق من الأب والإبن جميعاً.
وقام كل منهما بعقد مجمع، أو مؤتمر خاص، وقرر كل مجمع العقيدة التي اختارها
بطريركهم.
وأعلن كل مجمع منهما لعن، وطرد الآخرين من الدين المسيحي والرحمة
الإلهية، وكفر كل مجمع المجمع
الآخر، وقام بطريرك روما بعزل بطريرك
القسطنطينية،
وعقد مجمعاً في القسطنطينية سنة 869م أصدروا فيه القرارات
الآتية:
1- أن انبثاق روح القدس إنما كان من الأب والإبن
جميعاً.
2- أن كنيسة روما هي الحكم والفيصل في كل خلاف يتعلق
بالمسيحية.
3- أن كنيسة روما هي مرجع المسيحية في كل
مكان.
4- لعن البطريرك (فوسيوس)، وجميع أتباعه، وحرمانه، وقطعه من
الكنيسة.
ولكن (فوسيوس) هذا استطاع أن يعود إلى منصبه مرة ثانية
(بطريرك القسطنطينية)، وكان أول أمر فعله هو أن يعقد مجمعاً آخر في
القسطنطينية أيضاً سنة 879م، وقد قرر
هذا المؤتمر رفض جميع القرارات التي أصدرها المجمع السابق، وقرر أن روح القدس إنما كان انبثاقه من
الأب، وحكم كذلك بكفر
الآخرين،
ولعنهم.
وهكذا انفصلت الكنيسة الشرقية وعاصمتها القسطنطينية عن
الكنيسة الغربية وعاصمتها روما.
ومن العرض السابق نستفيد أن النصارى اختلفوا في أصل دينهم
على المقالات الآتية:
أولاً: مقالة الحق والدين الصحيح:
وهم الذين اعتقدوا أن المسيح عبدالله
ورسوله، وأنه مخلوق مصنوع
ولكن الله ملأه حكمة،
وعلماً، ورحمة، وجعله مباركاً أينما كان، وهذه هي العقيدة الصحيحة، ومن الذين كانوا على هذه العقيدة تلاميذ المسيح
-عليه السلام- بشهادة الله سبحانه وتعالى لهم في القرآن كما قال تعالى: {فلما
أحس..}، وأمة عظيمة على الحق كما جاء
في الأحاديث النبوية الكثيرة، ومنها
حديث: [عرضت
على الأمم.. ثم رفع لي سواد عظيم فإذا عيسى
وأمته]-الحديث.
ومن الموحدين المشهورين آريوس وكان لأتباعه انتشار عظيم في
فلسطين،
ومقدونية، والقسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، وأسيوط بمصر، ويقول ابن البطريق المؤرخ: (فأما أهل مصر
والإسكندرية فكان أكثرهم أريسيون) وكذلك غلب الأريسيون على بيت المقدس، وهذه المدن والأقاليم هي مهد النصرانية الأولى..
وكان ذلك قبل انعقاد أول مجمع للنصارى.. فلما عقد المجمع الأول في نيقية سنة
325م، وخرج بالقول بألوهية
المسيح، بدأ السلطان الغاشم يستعمل
الاضطهاد، والقمع، والمصادرة لعقيدة التوحيد، ويقوم بتعقب أفرادها في كل مكان وقتلهم
وتشريدهم، فلم يأت الإسلام إلا وهم
ملاحقون مضطهدون مطيرون، ولعل كلمة
الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل: [أسلم تسلم، وإن لم تسلم فإنما عليك إثم
الأريسيين] وهم أتباع آريوس الذين كانوا ما زالوا ملاحقين من قياصرة
روما..
ثانياً: مقالات الباطل والشرك والضلال:
وهي متعددة جداً، وقد اختلفت النصارى على أقوال كثيرة
في حقيقة الإله:
1- فمنهم من قال بأن المسيح، وأمه إلهان من دون الله، وهم فرقة
البربرانية.
2- ومنهم من قال بأن المسيح كشعلة نار انفصلت من شعلة نار
فلم تنقص الأولى، وهي مقالة سابليوس وشيعته.
3- ومنهم من قال بأن المسيح إنسان حلت فيه النعمة الإلهية
بالمحبة، والمشيئة وسمي ابن
الله لذلك وهذه مقالة (بولس الشمشاطي)، وقوله قريب من قول
الموحدين...
4- ومنهم من قال إن المسيح إله كامل، وإنسان كامل، وأنه اجتمع فيه اللاهوت والناسوت
بإرادتين، ومشيئتين، وهو ما خرج به مجمع نيقية
الأول، وفرضه في
الإمبراطورية الرومانية.
5- ومنهم من قال بأن روح القدس إله مع الله
والإبن، وكفَّر من قال بغير ذلك.
6- ومنهم من قال بأن روح القدس مخلوق
مصنوع، وليس بإله.
7- ومنهم من قال بأن المولود من مريم هو
الإنسان، وليس
الإله، وأن المسيح متحد مع الله
بالمحبة والموهبة فقط، أي ولم يجتمع
فيه اللاهوت والناسوت، وهي مقالة نسطور.
8- ومنهم من قال بأن المسيح لما اتحد فيه اللاهوت بالناسوت
تحول إلى طبيعة واحدة، وهي مقالة ديسقورس بطريرك الإسكندرية، ومن شايعه، وكفَّر من يقول بالطبيعتين
والمشيئتين.
9- ومنهم من قال بأن المسيح اجتمع فيه اللاهوت
والناسوت، وأصبحا طبيعتين
ومشيئتين، ووجه واحد، وأقنوم واحد، وهذه العقيدة هي التي خرج بها مجمع
خليقدونية سنة 451م.
10- ومنهم من قال بأن المسيح له طبيعتان ولكن له مشيئة
واحدة، وليس مشيئتان وهي
مقالة يوحنا مارون، ومن شايعه.
وأما اختلاف النصارى في الشرائع، والعبادات، فلا يوجد عندهم شيء من دينهم أجمعوا
عليه، واتفقوا عليه، في صلاة أو صيام، أو
طعام..
العبرة التي نستفيدها من اختلاف النصارى في أصل
دينهم:
1- أن الخلاف الذي نشأ في النصرانية كان أساسه حقيقة
الإله.
2- أن الذين غلبوا على أمرهم، وقرروا ألوهية المسيح -عليه السلام- كانوا
القلة، ولكنهم
كانوا مؤيدين من السلطان الغاشم بدءاً بقسطنطين ابن هيلانة وتبعه على ذلك معظم
أباطرة الرومان الذين لاحقوا عقيدة التوحيد.
3- أن النصرانية المثلثة المشركة إنما فرضت بالبطش
والطغيان.
4- أن الدين الحق الذي جاء به المسيح -عليه السلام- من
الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وأنه عبدالله ورسوله، وكلمته وروحه، وليس إلهاً مع الله، هذه العقيدة قد كانت عقيدة الأغلبية التي لاقت
الاضطهاد، والنفي
والتشريد،
فانقرضت شيئاً فشيئاً حتى جاء الإسلام ولم يبق من أتباعها إلا
القليل.
5- أن الحكام الرومان الذين دخلوا في النصرانية لم
يتنصروا، ولكن النصارى هم
الذين تروموا، وحولوا النصرانية من
عقيدة التوحيد إلى عقيدة وثنية شركية، تؤله البشر
وتعبدهم.
6- أن هؤلاء النصارى المشركين بالله لا يستدلون على
عقيدتهم بنص صريح من التوراة (التي يزعمون الإيمان بها، وأنها العهد القديم)، ولا من
الإنجيل.
فالتوراة لم يأت فيها نص قط، يذكر التثليث، ولا الصلب، ولا الفداء، ولا أن روح القدس إله مع الله، وإنما في التوراة التوحيد
فقط..
وكذلك الإنجيل مملوء كما أسلفنا ببيان النصوص القطعية التي
تثبت بشرية المسيح، وعبوديته لله رب العالمين.
7- أن أصدق وصف يطلق على النصارى هو
(الضالون)، وذلك أنهم قد ضلوا
حقاً وكان ضلالهم في أصل دينهم، وهو
حقيقة الرب الإله الذي له العبادة والخضوع، والذي خلق السماوات والأرض، وخلق المسيح وأمه، ويملك أن يهلك المسيح وأمه، ومن في الأرض جميعاً كما قال
تعالى:
{
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله
شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض
جميعاً، ولله ملك السماوات
والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير}
(المائدة:17).