غــايــة الإنـجـيــل
موضوع الإنجيل شيء وغايته شيء آخر ، وليس الموضوع إلا وسيلة يعمد إلى استعمالها لأجل الوصول إلى الغاية ، وبقدر أهمية الغاية يجب أن تكون الموضوعات واضحة ومرتبطة بالصدد ، وعلى تقدير العكس تبقى الغاية مبهمة غير مفهومة ، مثلاً يقدم لي أحد الأصدقاء بعض تآليفه ، فأقراه من أوله إلى آخره بكل شوق ، أراه يبحث عن أشياء كثيرة ، فإذن تلك (الأشياء الكثيرة) هي مواضيع الكتاب .
وعندما أقرا المواضيع أفكر
في شيء آخر ، أقول في نفسي حسن جداً ، فهمت علمت ، ولكن هناك شيء واحد لم افهمه ولم
اعلمه ، وهو ماذا يريد أن يقول المؤلف الذي يبحث عن كل هذه المواضيع ؟ ومعنى ذلك
أني أفتش عن الغاية ، فاهم شيء لأجل فهم الكتاب تماماً هو إدراك المواضيع وبعد ذلك
تظهر الغاية نفسها ، ليس من السهل تعيين كتاب ليكون مثالاً جيداً ، يتوارد على
خاطري كثير من المؤلفات التي طالعتها قبلاً في لغات مختلفة ، واتذكر منها أحد
النماذج وهو كتاب الشيخ سعدي الشيرازي المسمى (كاستان) هذا الكتاب النفيس يبحث عن
كثير من المواضيع المختلفة ، ولكن إذا سأل سائل ماذا كانت غاية المؤلف المعظم ؟ فلا
ريب أن يأتي من خمسة مطالعين خمسة أجوبة ، ومن الصعب جداً كشف غاية سعدي ، ذلك لان
مواضيع الكتاب المذكور ليست على نسق واحد فيصعب تعيين الغاية منها ، وكذلك تعيين
غاية الإنجيل فإنه من قبيل هذه المشكلات .
أن في الأناجيل الأربعة
تيارين مختلفين ، الأول من قبيل الرجوع إلى الأصل ، وفيه يصور سيرة عيسى الحقيقي
التاريخي ابن الإنسان وأعماله ، ويعرف تعاليمه الأصلية الصحيحة وسعيه وإقدامه في
وظيفته التي كان مكلفاً أن يؤديها .
أن الأناجيل الثلاثة لمتى
ومرقس ولوقا في الطبيعة الأصلية منها التي هي عبارة عن الطابق (أو الدور) التحتاني
قد صورت عيسى وتعاليمه على الوجه المذكور ، وهناك يذكر المؤلف - في أول طبع كتابه
ونشره - حضرة المسيح بلقب (المعلم) و (الأستاذ) وبعضاً (بالسيد) و (الاغا)
(مرقس 9 : 17 : 38 و14:12 : 19 : 32 الخ ومتى
17 : 15 : 18 21 ولوقا 39:9 الخ) .
على ان أحد الأغنياء إذ
كان يسأل عيسى عليه السلام مخاطباً إياه
(أيها المعلم الصالح(1)) ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ أجابه لماذا تدعوني
صالحاً ؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله)(*) (مرقس 10 : 17 - 18) (لوقا 18:18)
(متى 16:19) ان ذلك المعلم المطلق كان
معلم شريعة ، يعلم الشريعة للاهلين ويفهمهم القواعد الدينية متنقلاً من قرية إلى
أخرى ، يدخل سيناغوغ كل قرية وقصبة يفتح كتب العهد القديم ويقرأها ، ويفهم الاهلين
معناها ، وينير أفكارهم ، يعمل الخير في كل مكان ، يفعل كل ذلك مجاناً لوجه الله
وهو راض ومقتنع بالعنوان البسيط المجرد (المعلم) لا يقرهم على أن يقولوا له (كريم)
أو (صالح) إذ لا كريم ولا صالح إلا الله ، فها نحن أولاء نصادف في أول طبع الكتاب
ونشره عيسى المعلم عيسى الأستاذ (الخوجه).
ولكن في الطبعة الثانية
والثالثة وما بعدهما على التوالي نجد أن المعلم قد صار رباً وإلهاً والخوجه عيسى قد
صار نازلاً من السماء إلى الأرض ، راكباً على السحاب ، محاط بالملائكة قاضي يوم
المحشر ، وحاكمه ، جامعاً كل بني جنسه إلى محكمة العالم الكبرى وكل ذلك صار وتم في
ظرف سنة واحدة(1) .
فالمأمور بالتبشير بكلام
ملكوت الله هو عيسى الأول عليه السلام ، كأن ملك الملكوت وصاحبه ، ليس لله ، وكأن
الكلام ليس لله والملكوت ، بل كل ذلك لعيسى الثاني ، ومن العبث أن يبحث عن الإنجيل
الرابع حتى الآن ، فليس هناك بحث عن ولادة المسيح وطفولته ، بل انه يومئ إلى أن
(كلمة الله) و (ابن الله) تجسد وصار أنسانا .
فهلموا بنا نبحث الآن لنجد
الغاية المقصودة بالذات من تلك الكتب المحرفة إلى هذه الدرجة ولنبرهن عليها ، وإن
كان من الصعوبة بمكان فإنما مثل الأناجيل الأربعة وغايتها كمثل الماس يلمع بين
الرمال ، والحقيقة كاللآليء مشعشعة مرصعة بكل حسنها وجمالها بين تلك السطور
والصحائف ، فلا آيات المرذولين الموضوعة ولا مداد المحرفين يستطيعان إخفاء تلك
الأشعة الساطعة الحقيقية وتلويثها ، وكما ان معاول المنقبين تمكنت من فتح ثغرة في
هرم مصر الكبير فكشفت عن موميات الفراعنة المطمورة في رحمه ، ونقضت حفرت أسس نينوا
وبابل وتسنى لها إخراج مكتبات آثوريا القديمة إلى الميدان ، فكذلك قلم هذا الكاتب
الصغير أيضاً سيتمكن من كشف الغاية الحقيقية للإنجيل الشريف ووضعها أمام أنظار خيرة
كل العالم بعون الله تعالى .