تقررت عقيدة ألوهية الروح القدس عند النصارى في الاجتماع
الذي عقد لهذا الغرض ، في القسطنطينية سنة 381م ، وأصبحت هذه الإضافة الجديدة التي
لم تكن في قانون الإيمان الصادر عن مجمع نيقية سنة 325م ، من أصول الإيمان في
عقيدتهم ، وبه اكتملت الأقانيم الثلاثة المكونة من الآب والابن والروح القدس ،
وأصبحت عقيدة التثليث دين النصرانية حسب قانون إيمانهم المقدس ، واعتبره النصارى :
(( هو القانون المعبر عن الإيمان المسيحي الحقيقي ، وبناء على ذلك فمن يخالف تعاليم
هذا القانون يخالف الإيمان المسيحي ويجب حرمانه )) .
يقول زكي شنودة : (( وقد أجمع
المسيحيون فيما عقدوه إبان القرن الرابع من مجامع عالمية ـ أو مسكونية كما اعتادوا
أن يسموها ـ على وضع قانون للإيمان يتضمن المعتقد الصحيح لكل المسيحيين ، ويقطع
السبيل على كل من يحاول تغيير أمر أو تفسير أمر على غير مقتضى هذا القانون ، وقد
درج المسيحيون جميعاً منذ وضع هذا القانون في القرن الرابع الميلادي إلى اليوم على
التمسك به وتلاوتة أثناء الصلاة في كل كنائس العالم دون استثناء))
.
ثم تحدث عن اعتقاد ألوهية الروح القدس فقال
: (( هو الأقنوم الثالث من اللاهوت الأقدس ، وهو مساوٍ للآب والابن في
الذات والجوهر والطبع وكل فضل اللاهوت ، وهو روح الله ، وحياة الكون ومصدر الحكمة
والبركة ، ومنبع النظام والقوة ، ولذلك فهو يستـحق العبـادة الإلهية ، والمحبة
والإكرام والثـقة مع الآب والابـن )) .
ويقول القس يسي منصور : (( إن الروح القدس هو الله الأزلي
، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة ، وهو الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شـيء ،
والحاضر في كل مكان ، وهو السرمدي غير المحدود ))
, ويقـول في موضع آخـر : (( إن الروح
القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت ، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة ، بل هو
ذات حقيقي ، وشخص حي ، وأقنوم متميز ولكنه غير منفصل ، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم
الآب وغـير أقنوم الابن ، ومسـاوٍ لهما في السـلطان والمقـام ، ومشترك وإياهما في
جوهر واحد ولاهوت واحد )) .
فالأقانيم الثلاثة ـ على زعمهم ـ هي :
الذات والنطق والحياة ، فالذات هو الآب ، والنطق أو الكلمة هو الابن ، والحياة هي
الله روح القدس ، ومعنى ذلك في عقيدتهم : أن الذات والد النطق أو الكلمة ، والكلمة
مولودة من الذات ، والحياة منبعثة من الذات حسـب اعتقاد الكنيسة اليونانية
الأرثوذكسية ، أو منبعثة من الذات والكلمة حسـب اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية
والإنجيلية .
ويزعم النصارى أن دليلهم على اعتقاد
ألوهية الروح القـدس مستمدة من كتابهم المقدس، وأن كل النصوص التي ورد فيها ذكر
الروح القـدس دليـلاً على ألوهيتـه ، وقد سـبق ذكر بعض هذه النصوص ومناقشتها في
شواهد سابقة ، وسيأتي ذكر بعضها ومناقشتها في شواهد لاحقة ، إن شاء الله
ولكن الناظر والمدقق في منطوق هذه النصوص
ومفهومها يلاحظ أنه لا يوجد فيها ما يؤيد معتقدهم ، فقد ضلوا في الوصول إلى الحق
المراد منها ، فكان ذلك سبب ضلالهم ، لأنهم اعتمدوا على الألفاظ المتشابهة المنقولة
عن الأنبياء ، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها ، وهم كلما سمعوا
لفظاً لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم ، وإن لم يكن دليلاً على ذلك ،
والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك ، إما أن يفوضوها ، وإما أن يتأولوها ـ كما يصنع
أهل الضلال ـ يتبعون المتشابه مـن الأدلة العقـلية والسمعية ، ويعـدلون عن المحـكم
الصريح من القسـمين .
وسنذكر بعض الأمثلة عن تأويلهم قضايا
عقدية أخرى غير قضية الروح القدس ، تبين منهجهم في التأويل وصرف المعنى عن دلالته
الصريحة الواضحة ، إلى تأويلات باطلة ، ولكنها حسب منهجهم صحيحة طالما أنها تؤدي
إلى مطلوبهم كما يعتقدون ، ومن هذه الأمثلة على تأويلهم لنصوص كتابهم المقدس ، ما
يأتي :
المطلب الأول : تأويل نصوص التوراة :
يزعم القس بوطر في رسالة صغيرة ، سماها الأصول والفروع ، ان
الله عز وجل ـ بعد أن خلق الإنسان ـ لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص
بالوحدانية لله من خلال التوراة ، ويزعم أن المدقق فيها يرى إشارات وراء الوحدانية
، يعني ـ على زعمه ـ أنها تدل على عقيدتهم في التثليث ـ الأب والابن والروح القدس ـ
وغير ذلك من المعتقدات التي تأولوا نصوص التوراة للتدليل
عليها.
يقول القس بوطر: (( بعدما
خلق الله العالم ، وتوج خليقته بالإنسان ، لبث حيناً من الدهر لا يعلن له سوى ما
يختص بوحدانيته ، كما يتبين ذلك من التوراة ، على أنه لا يزال المدقق يرى بين
سطورها إشارات وراء الوحدانية ، لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات :
(( كلمة الله أو حكمة الله ، أو روح القدس )) ولم يعلم من
نزلت إليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني ، لأنه لم يكن قد أتى الوقت
المعين الذي قصد الله فيه إيضاحها على وجه الكمال والتفصيل ، ومع ذلك فمن يقرأ
التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المعنى المراد ، إذ يجدها تشير إلى أقانيم في
اللاهوت ، ثم لما جاء المسيح إلى العالم أرانا بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل
أن له نسبة سرية أزلية إلى الله ، تفوق الإدراك ، ونراه مسمى في أسفار اليهود :
(( كلمة الله )) وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة ، ثم
لما صعد إلى السماء أرسل روحاً ، ليسكن بين المؤمنين ، وقد تبين أن لهذا الروح
أيضاً نسبة أزلية إلى الله فائقة ، كما للابن ، ويسمى الروح القدس ، وهو ذات
العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا ، ومما تقدم نعلم بجلاء أن المسمى بكلمة الله
، والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس المذكوران في الإنجيل
، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح ، وإن وحدة الجوهر لا يناقضها
تعدد الأقانيم ، وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه لفهم الكتاب المقدس لا يقدر أن
يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد ، ولا يفسر الروح بالقوة التأثيرية ، بل
لابد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم متساوين في الكلمات الإلهية ، وممتازين
في الاسم والعمل ، والكلمة والروح القدس إثنان منهم ، ويدعى الأقنوم الأول الآب ،
ويظهر من هذه التسمية أنه مصدر كل الأشياء ومرجعها ، وأن نسبته للكلمة ليست صورية
بل شخصية حقيقية ، ويمثل للأفهام محبته الفائقة ، وحكمته الرائعة ، ويدعى الأقنوم
الثاني الكلمة ، لأنه يعلن مشيئته بعبارة وافية ، وأنه وسيط المخابرة بين الله
والناس ، ويدعى أيضاً الابن ، لأنه يمثل العقل نسبة المحبة ، والوحدة بينه وبين
أبيه ، وطاعته الكاملة لمشيئته ، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه ، ونسبة كل
الأشياء إليه ، ويدعى الأقنوم الثالث الروح القدس ، الدلالة على النسبة بينه وبين
الآب والابن ، وعلى عمله في تنوير أرواح البشر ، وحثهم على طاعته ... وبناء على ما
تقدم يظهر جلياً أن عبارة الابن لا تشير كما فهم بعضهم خطأ إلى ولادة بشرية ،
ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد ، وإذا أراد الله أن
يفهمنا تلك النسبة لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات
)).
يقول الشيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ
ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات :
أولاها : إثبات أن التوراة وجد
فيها أصل التثليث ، لوحت به ولم تصرح ، أشارت إليه ، ولم
توضح.
وثانيها : أن في اللاهوت ثلاثة
أقانيم ، وهي في شعبها متغايرة وإن كانت في جوهرها غير
متغايرة.
وثالثها : أن العلاقة بين الآب
والابن ليست ولادة بشرية ، بل هي علاقة المحبة والاتحاد في
الجوهر.
ومن الأمثلة على تحريف نصوص التوراة قول القس يسي منصور:
(( إذا قالت التوراة : (( وقال الله نصنع الإنسان على صورتنا
كشبهنا )) ، كان ضمير الجمع (نا) الذي تحدث به الله عن نفسه ، فإن الله
لم يتكلم بصيغة الجمع إلا باعتباره ثلاثة في واحد )) .
وإذا قالت التوراة : (( فقال
الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا ، عارفاً الخير والشر
)) ، كان المتكلم هو الله ممثلاً في أقانيمه
الثلاثة وإذا قالت التوراة : (( منذ وجوده
أنا هناك .. ولأن السيد الرب أرسلني وروحه )) ، فمفهوم هذا أن ضمير ( نا) يشير إلى
الابن ، و (( السيد
الرب )) يشير إلى الأب ، (( وروحه)) هو روح
القدس.
وإذا قالت التوراة على لـسان موسى مخاطباً
الأسباط الإثنى عشر ، معلناً فيهم وصايا الله لهم : (( وهكذا تباركون إسرائيل قائلين لهم : يباركك الرب
ويحرسك ، يضئ الرب بوجهه عليك ويرحمك ، يرفع الرب بوجهه عليك ويمنحك سلاماً ،
فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم )) ،
كان تأويل هذا هكذا : (( الله الأب يظهر محبته ويحرسهم ، وربنا يسوع المسيح يظهر
نعمته ويرحمهم ، والروح القدس يظهر شركته ويمنحهم سلاماً )) ، وهذا
التأويل ـ لا شك أنه ـ من الضلال عن الحق ، إذ ليس في تلك النصوص التي استشهد بها
ما يشير إلى الأقانيم الثلاثة ـ حسب زعمهم ـ بل إن جميع أسفار العهد القديم لا يوجد
فيها ما يؤيد معتقدهم في التثليث ، بدليل اعترافهم أنفسهم بذلك ، إذ يقول أحدهم :
(( إن التعليم عن الروح القدس كأقنوم إلهي في الثالوث القدوس لم يرد في
العهد القديم بشكل واضح ، شأنه شأن التعليم عن الثالوث الإلهي نفسه ، ولكن الروح
القدس ذكر في العهد القديم في عدة مواضع ))
، وهذا يعني أن تأويلهم للنصوص بما يوافق معتقدهم
من الظن والقول بغير علم ، والدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال .
ومن تأويلهم للنصوص زعمهم أن ما تحدثت به
التوراة عن (( ملاك الرب ))
المقصود به الرب ذاته ، يقول عوض سمعان : إن كلمة ملاك أو ملاك الرب وردت في الكتاب
المقدس مراد بها اسم الرب أو الله ، فقد قال زكريا النبي :
(( مثل الله مثل ملاك الرب )) ، وقال الوحي عن يعقوب : ((
جاهد مع الله، جاهد مع الملاك )) ، وقال يعقوب عندما رأى ولدي يوسف
: (( الله الذي رعاني ، الملاك الذي خلصني ،
يبارك الغلامين ))
، ثم يعلق عوض سمعان على هذه النصوص بقوله : إن
كلمة ( ملاك ) ليست في الأصل اسماً للمخلوق الذي يعرف بها ، بل إنها اسم للمهمة
التي يقوم بها ، وهذه المهمة هي تبليغ الرسائل ، فالاصطلاح (ملاك الرب ) معناه حسب
الأصل : (( المبلغ لرسائل الرب
)) ولما كان الرب هو خير من يقوم بتبليغ
رسائله ؛ لأن كل ما عداه محدود ، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلاناً كاملاً ذات أو
مقاصد غير المحدود ، لذلك يحق أن يسمى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله
( ملاك الرب ) بمعنى المعلن لمقاصده
أو المعلن لذاته ، وبالحري بمعنى (( ذاته
معلناً أو متجلياً )) لأنه لا يعلن ذات الله
سوى الله .
هذا التأويل الباطل الذي جاء به النصارى
لنصوص التوراة بعد أكثر من ألفي سنة من نزولها على موسى عليه السلام ، وعلى
الأنبياء من بعده ، لم يكن هذا التأويل معروفاً عند من نزلت عليهم ، بل كانوا على
علم أن الذي يأتيهم بالوحي ويتحدث إليهم هم ملائكة الله ، وليس الله ذاته ، وكذلك
لم يكن هذا التأويل معروفاً عند اليهود وهم أهل التوراة الذين لم يفهموا منها سوى
ما بلغهم به أنبياؤهم ، بدليل ماسبق ذكره عند الحـديث عن حقيـقة الروح القـدس عند
اليهود في المطلب الأول من المبحـث الأول .
وكذلك أناجيل النصارى التي تحدثت عن وجود
الملائكة ، وعددهم ووظائفهم ، ورسالتهم ، لم يأت فيها ذكر أنهم هم ذات الله ، يقول
المسيح عليه السلام : (( لأنهم في القيامة
لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء )) ،
ويقول أيضاً : (( أتظن أني لا أستطيع الآن
أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثنى عشر جيشاً من الملائكة )) ،
وجاء في الإنجيل : (( وظهر بغتة مع الملاك
جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين ، المجد لله في الأعالي وعلى الأرض
السلام وبالناس المسرة )) . ونصوص أخرى ذكرت
أن ملاك الله بشر زكريا بميلاد يوحنا ( يحيى عليه السلام ) ، وبشر مريم بميلاد
المسيح ـ عليه السلام ـ ، وعن السبعة من الملائكة ووظائفهم ، وغير ذلك
من النصوص ، التي تدل على أن المـلائكة خلق من خلق الله ، وأنـهم رسـله إلى من يشاء
مـن خـلقه .
وحسب تأويلهم للنصوص ، يمكن القول إن تأويل
المراد من الملائكة في هذه النصوص الآنفة الذكر هم ذات الله أيضاً ، وإذا كان كذلك
فهذا يدل على أنهم لا يفرقون بين الله وملائكتة ، ولا بين الخالق والمخلوق
.
المطلب الثاني : تأويل نصوص الإنجيل :
ومن أمثلة تأويل نصوص الإنجيل ، ما جاء في خاتمة إنجيل متى
: (( فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم
وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس ))
، فزعموا أن تأويل المراد من هذا النص أنه يشير إلى الأقانيم الثلاثة ، وأن كل
أقنـوم منها إلهٌ بـذاته .
لكن تأويلهم هذا من التأويل الباطل الذي
ضلوا فيه عن الحق ، إذ مراد المسيح ـ على فرض صحته عنه ـ خلاف المراد الذي يعتقده
النصارى ، وللعلماء في تأويل المراد من هذا النص عدة احتمالات : فإما أن يكون مراد
المسيح
ـ كما يقول الإمام ابن تيمية ـ أي
:
(( مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي
أرسله ، وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به ، فيكون ذلك أمراً لهم بالإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح
المنقول ))
وإما أن يكون مراد المسيح ـ كما يقول المهتدي نصر بن يحيى المتطبب ـ
: (( إن كان صحيحا ً، فيحتمل أن يكون قد ذهب فيه بجميع هذه الألفاظ : أن
يجتمع له بركة الله ، وبركة نبيه المسيح ، وبركة روح القدس ، التي يؤيد بها
الأنبياء والرسل ، وأنتم إذا دعا أحدكم للآخر قال له : صلاة فلان القدس تكون معك ،
وإذا كان أحدكم عند أحد الآباء مثل جاثليق ومطران أو أسقف ، وأراد أن يدعو له ،
يقول له : صلي علي ، ومعنى الصلاة : الدعاء ، واسم فلان النبي أو فلان الصالح الذي
هو يعينك على أمورك ، ويجوز أن يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به ، فكيف حكمتم
بأنه ذهب إلى هذه الأسماء لما أضافها إلى الله تعالى ، صارت إلهية ، وجعلتم له
أسماء ، وهي : الأقانيم الثلاثة ، وقد عبرتم في لغتكم أن الأقنوم : الشخص ، فكيف
استخرجتم ما أشركتموه بالباري تعالى ذكره عما تصفون بالتأويل الذي لا يصح
)) .
وإما أن يكون مراد المسيح ـ كما يقول
الإمام القرطبي ـ أي :
(( عمدوهم على تركهم هذا القول ، كما يقول القائل : كل على اسم الله ، وامش على اسم الله ، أي على بركة اسم الله ، ولم يعين الآب والابن من هما ؟ ولا المعنى المراد بهـما ؟ فلعله أراد بالآب هنا : الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح ، إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به ، وأراد بالابن : نفسه ، إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك ، فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره ، ثم لا يبعد أيضاً في التأويل ـ إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب ـ أن يكون مراده به : أنه ذو حفظ له ، وذو رحمة وحنان عليه ، وعلى عباده الصالحين ، فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم ، وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار ، ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى ، لأنه معـلمه وهـاديه ومرشده ، كما يقال : المعلم أبو المتعلم ، ومن هذا قوله تعالى في كتابنا : (( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل )) ، على أحد تأويلاته ، ومن هـذين التأويلين : يصح حل ما وقع في أناجيـلهم من هذا اللفـظ ، بل هـذان التأويلان ظاهران وسائغان فيـها )) .
(( عمدوهم على تركهم هذا القول ، كما يقول القائل : كل على اسم الله ، وامش على اسم الله ، أي على بركة اسم الله ، ولم يعين الآب والابن من هما ؟ ولا المعنى المراد بهـما ؟ فلعله أراد بالآب هنا : الملك الذي نفخ في مريم أمه الروح ، إذ نفخه سبب علوق أمه وحبلها به ، وأراد بالابن : نفسه ، إذ خلقه الله تعالى من نفخة الملك ، فالنفخة له بمثابة النطفة في حق غيره ، ثم لا يبعد أيضاً في التأويل ـ إن صح عن عيسى عليه السلام أنه كان يطلق على الله لفظ الأب ـ أن يكون مراده به : أنه ذو حفظ له ، وذو رحمة وحنان عليه ، وعلى عباده الصالحين ، فهو لهم بمنزلة الأب الشفيق الرحيم ، وهم له في القيام بحقوقه وعبادته بمنزلة الولد البار ، ويحتمل أن يكون تجوز بإطلاق هذا اللفظ على الله تعالى ، لأنه معـلمه وهـاديه ومرشده ، كما يقال : المعلم أبو المتعلم ، ومن هذا قوله تعالى في كتابنا : (( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل )) ، على أحد تأويلاته ، ومن هـذين التأويلين : يصح حل ما وقع في أناجيـلهم من هذا اللفـظ ، بل هـذان التأويلان ظاهران وسائغان فيـها )) .
ثم ذكر القرطبي شواهد من أناجيلهم ، تدل
على أن التأويل الذي ذهب إليه ، هو الحق في بيان مراد المسيح من قوله لحوارييه
عمدوا الناس باسم الآب والابن والروح القدس .
ومن الشواهد من أناجيلهم التي ترد تأويلهم
الباطل وتبطله ، ما يأتي :
أولاً : إن ذكر الأب في الأناجيل معناه
الله سبحانه وتعالى ، يقول المسيح ـ عليه السلام ـ في إحدى وصاياه
لتلاميذه: (( أحبوا أعداءكم، وباركوا
لاعنيكم ، وأحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ، لكي
تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات )) ،
ويقول المسيح أيضاً : (( احترزوا من أن
تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم ، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في
السموات ))
، وغير ذلك الكثير من النصوص التي تشير إلى أن
الله عز وجل يطلق عليه لفظ الأبوة . وليس في هذا معنى الأبوة التناسلية
أو المفهوم الذي يفهم منه أنه إذا أطلق على الله لفظ الأب أن يكون له ولد ، تعالى
الله عن ذلك .
ثانياً : أن كلمة الابن وردت في عدة
نصوص من الأناجيل مضافة إلى الله وبدون إضافة ، ومن هذه النصوص ، أن إبليس يقول
للمسيح : (( إن كنت ابن الله فقل أن تصير
هذه الحجارة خبزاً ))
، وأنه قال له مرة أخرى : (( إن كنت ابن لله فاطرح نفسك إلى الأسفل
)) ، وفي الإنجيل أن المسيح سأل تلاميذه مرة قـائلاً : (( من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان ؟ فقالوا : قوم
يوحنا المعمدان وآخرون ، إيليا وآخرون ، أرميا أو أحد من الأنبياء ، قال لهم :
وأنتم من تقولون إني أنا ؟ فأجاب سمعان بطرس : أنت هو المسيح ابن الله الحي
)) ، وهناك الكثير من النصوص الإنجيلية التي تنسب المسيح أنه ابناً لله
، ولكن هناك نصوص أخرى تبين أن هذه النسبة ليست خاصة بالمسيح ، بل تلاميذ المسيح
وكل المؤمنين هم أبناء الله ، وهذا يدل على أن لفظة الابن في الأناجيل المراد بها
رعاية الله وعنايته ، وقربه من الناس ، وحفظه ورحمته لهم ، وليست صلة قرابة جسدية ،
ومن هذه النصوص قول المسيح : (( وصلوا للذين
يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات )) ،
وأمرهم عليه السلام أن يقولوا في صلاتهم : (( أبانا الذي في السموات )) ،
وغير ذلك من النصوص .
والمراد من هذه النصوص التي تطلق على المسيح
ـ عليه السلام ـ وعلى تلاميذه وعلى المؤمنين أنهم أبناء الله ـ على فرض صحتها ـ
المراد منها المجاز وليس الحقيقة .
ونظير هذا ما أخبر الله عز وجل في القرآن الكريم ، أن اليهود
والنصارى قالوا : (( نحن أبناء الله وأحباؤه
)) ، (( أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه ، وله بهم
عناية ، وهو يحبنا ، ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري ،
فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه ، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم
وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى
قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني ربي وربكم ، ومعلوم أنهم لم يدعو لأنفسهم
من البنوة ما ادعوها في عيسى ـ عليه السلام ـ وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه ،
وحضوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، قال الله تعالى رداً عليهم
: (( قل فلم يعذبكم بذنوبكم ))
، أي لو كـنتم كما تدعون أبنـاء الله وأحـباؤه ،
فلم أعـد لكم نار جـهنم على كـفركم وكذبكم وافترائكم ؟ )) .
ثالثاً : أما الروح القدس فإن النصارى يتأولون اعتقاد ألوهيته
من عدة نصوص من العهـد الجديد ، ففي الإنجيـل عن الحمل بعيسى ـ عليه السلام ـ أن أم
المسـيح : (( وجدت حبلى من الروح القدس )) ،
وفي الإنجيل أيضاً ، أن مريم : (( حبل به
فيها من الروح القدس )) ، وفي الإنجيل أيضاً أن السيح قال
لتلاميذه : (( فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا
تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا ، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا
، لأن لسـتم أنتم المتكلمين بل الروح القـدس )) ،
وفي أعمل الرسل قول بطرس لحنانيا: (( يا
حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتـكذب على الروح القـدس ، أنـت لم تكذب على النـاس
بل على الله )) .
كما يتأول النصارى اعتقاد ألوهية الروح
القدس من أقوال من يسمونه بولس الرسول ، الذي نسب إلى الروح القدس مايمكن أن ينسب
إلى ذات الله وصفاته وأعماله وعبادته ، كما ذكر ذلك قاموس الكتاب المقدس ، مستدلاً
بأقوال بولس الرسول التي وردت في هذا المقام ، إذ يقول : (( أما تعلمون أن هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ))
، وقوله :
(( إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح
من الأموات سيحيي أجسادكم المائته أيضاً بروحه الساكن فيكم )) ،
وغير ذلك من النصوص التي يستشهدون فيها على أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث من
لاهوتهم المقدس ، وأنه ـ على زعمهم ـ مساوٍ للأب والابن في الذات والجوهر ، وغير
ذلك من الصفات التي يزعمون أنها أدلة على إثبات ألوهيته واستحقاقه للعبادة الإلهية
، تعالى الله عن قولهم .
لكن اعتقادهم ألوهية الروح القدس باطل
ومردود ، ودليل ذلك مايأتي :
1 ـ أن نصوص العهد القديم والعهد الجديد
التي ورد فيها ذكر الروح مضافاً إلى الله وإلى القدس وبدون إضافة ، جاءت بمعنى
الوحي بالإلهام ، وبمعنى الثبات والنصرة التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده
المؤمنين ، وبمعنى ملاك الله جبريل ـ عليه السلام ـ وبمعنى المسيح ـ عليه السلام ـ
كما سبق ذكر الشواهد على ذلك عند الحديث عن حقيقة الروح في المبحث الأول
.
كذلك فإن حقيقة الروح حسب تعبير النصارى
أنه : (( الناطق في الأنبياء ، الناطق في الناموس والمعلم بالأنبياء ،
الذي نزل إلى الأردن ونطق بالرسل ، وأنه الروح القدس روح الله )) فكل
هذه المعاني تدل على أن حقيقة الروح القدس لاتدل على مرادهم باعتقاد ألوهيته ، إذ
لو كان إلهًا ، لكان كذلك منذ أن خلق الله تعالى الخلق حتى قيام الساعة ، لكن ذلك
لم يكن .
2 ـ أن عقيدة ألوهية الروح القدس لم تكن
معروفة في عصر المسيح ـ عليه السلام ـ ولا في عصر حوارييه ، ولا في القرون الثلاثة
بعد رفع المسيح ، بدليل أنهم في قانون إيمانهم المقدس سنة 325م قالوا :
(( ونؤمن بالروح القدس )) ، دون أن يذكروا
اعتقادهم ألوهيته ، وبعد أكثر من نصف قرن حينما اجتمعوا في القسطنطينية سنة 381م ،
صدر عنهم قانون آخر أضافوا فيه اعتقادهم ألوهية الروح القدس ، فقالوا :
(( ونؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب ، الذي هو مع الآب
والابن مسجود له وممجد ، الناطق في الأنبياء )) أي أن اعتقادهم ألوهية
الروح القدس جاء بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المســيح ، إضافة إلى أن قولهم هذا
متناقض وباطل عقلاً ونقلاً ، يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ((
قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الآب مسجود ممجد ،
ناطق في الأنبياء ، فإن كان المنبثق رباً حياً ، فهذا إثبات إله ثالث ، وقد جعلتم
الذات الحية منبثقة من الذات المجردة ، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى
، ثم جعلتم هذا الثالث مسجود له ، والمسجود له هو الإله المعبود ، وهذا تصريح
بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض ، ثم جعلتموه ناطقاً بالأنبياء ، وهذا
تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء ، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبًا
من لاهوت وناسوت ، وأنه إله تام وإنسان تام ، كما قلتم في المسيح ، إذ لا فرق بين
حلول الكلمة ، وحلول روح القدس ، كلاهما أقنوم ، وأيضاً فيمتنع حلول إحدى الصفتين
دون الأخرى ، وحلول الصفة دون الذات ، فيلزم الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة
حالاً في كل نبي ، ويكون كل نبي هو رب العالمين ، ويقال مع ذلك هو ابنه ، وفي هذا
من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى ، وهذا لازم للنصارى لزوماً لا محيد
عنه ، فإن ما ثبت لنظيره ، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين ، وليس لهم أن يقولوا :
الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص ، ولا نص في غيره لوجوه : أحدها : أن النصوص
لم تدل على شيء من ذلك )) .
الثاني : أن في غير المسيح من النصوص ما
شابه النصوص الواردة فيه كلفظ الابن ، ولفظ حلول روح القدس فيه ، ونحو ذلك . الثالث
: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول ، وليس كل ما علمه
الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح ، بل من جملة الدلالات دلالة
الالتزام ، وإذ ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين لمعنى مشترك بينه وبين النبي
الآخر وجب التسوية بين المتماثلين ، كما إذ ثبت أن النبي يجب تصديقه ، لأنه نبي ،
ويكفر من كذبه لأنه نبي ، فيلزم من ذلك تصديق كل نبي وتكفير من كذبه. الرابع : هب
أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير ، فيلزم تجويز ذلك في الغير إذ لا دليل على
إنتفائه ، كما يقولون : إن ذلك كان ثابتاً في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم ،
وحينئذٍ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلهاً تاماً وإنساناً
تاماً كالمسيح وإن لم يعلم ذلك . الخامس : لو لم يقع ذلك ، لكنه جائز عندهم ، إذ لا
فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين ، فيلزمهم تجويز أن
يجعل الله كل إنسان إلهاً تاماً وإنساناً تامًا ، ويكون كل إنسان مركباً من لاهوت
وناسوت ، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله ،
وأنها لاهوت قديم أزلي فيجعلون نصف كل أدمي لاهوتاً ، وهؤلاء يلزمهم من المحالات
أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه ، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر من بعض
الوجوه .
3 ـ ويدل على فساد عقيدتهم أن سبب عقد مجمع
القسطنطينية ـ الآنف الذكر ـ أن هناك الكثير من النصارى الذين ما زالوا على عقيدة
التوحيد ، ينكرون ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس ، كأسقف القسطنطينية البطريرك
مكدونيوس الذي يعتقد أنه كسائر المخلوقات ، وخادم للابن كأحد الملائكة ، كما أن
اختلاف النصارى حول طبيعة المسيح ، وحول انبثاق الروح القدس ، وغيرها من أصول
العقيدة ، التي عقدوا من أجلها المجامع المتعددة لتقرير أصولها وما حدث بينهم من
انقسامات وما نتج عنها من ظهور طوائف متعددة ، كل طائفة تنكر ما عليه الطائفة
الأخرى ، كل ذلك وغيره يدل على أنهم ضلوا عن الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى
على المسيح ـ عليه السلام ـ وعلى النبيين من قبله ، إذ لو تمسكوا بالوحي لهدوا إلى
الصراط المستقيم ، الذي من أجله أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب
.
4 ـ كما أن نصوص الإنجيل وأقوال بولس الرسول
التي تدل ـ بزعمهم ـ على ألوهية الروح القدس باطلة بنصوص الإنجيل نفسه ، وبأقوال
بولس نفسه أيضاً ، ودليل ذلك مايأتي :
أ ـ أن ملاك الله جبريل عليه السلام ، بشر زكريا ـ عليه السلام ـ
بميلاد يوحنا المعمدان ـ يحيى عليه السلام ـ وأنه يكون عظيماً أمام الرب ، ومن بطن
أمه يمتلئ من الروح القدس ، إذ جاء في الإنجيل : (( فقال الملاك : لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت ،
وامرأتك إليصابات ستلد لك ابناً ، وتسميه يوحنا ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون
سيفرحون بولادته ، لأنه يكون عظيماً أمام الرب ، وخمراً ومسكراً لا يشرب ، ومن بطن
أمه يمتلئ من الروح القدس ، ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم
)) ، هذا النص يفيد أن جبريل ملاك الله بشر زكريا بمولد ابنه ، وأنه
يكون عظيماً أمام الله عز وجل ، عفيفاً عن المسكرات ، ويؤيده الله بروح القدس ،
وأنه يرد بني إسرائيل إلى الرب إلههم .
وهذا النص لا يستشهد به النصارى دليلاً على
اعتقادهم ألوهية الروح القدس ، ضمن شواهدهم التي يستدلون بها على ألوهية الروح
القدس ؛ لأنه ضد عقيدتهم هذه ، ولا أحد من النصارى زعم أن الروح القدس الذي أيد
الله به يوحنا ، أنه إلهاً بذاته ، لأنه كيف يكون إلهًا ، ويوحنا نفسه ـ كما في
النص ـ يكون عظيماً أمام الله ، فلو زعموا أن الروح القدس في هذا النص إلهاً
مستقلاً ، لانكشف لهم فساد معتقدهم في تأليه الروح القدس .
ب ـ أن ملاك الله جبريل عليه السلام ، بشر
مريم بميلاد المسيح ـ عليه السلام ـ إذ جاء في الإنجيل : (( وفي
الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة ، إلى
عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف ، واسم العذراء مريم ... فقال لها الملاك
: لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله ، وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً ،
وتسمينه يسوع ... فقالت مريم للملاك : كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً ، فأجاب
الملاك ، وقال لها : الروح القدس يحل عليك )) ، وفي الإنجيل أيضاً : (( أما
ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا ، لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت
حبلى من الروح القدس ، فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها
سراً ، ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً يا
يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد
ابناً وتدعو اسمه يسوع )) .
والمراد من الروح القدس الذي حل على مريم في هذين النصين ، أحد أمرين
: إما أن يكون المراد به جبريل عليه السلام ، وهذا يتفق مع ما ذكره الله عز وجل عن
مـريم في قوله : (( فاتخـذت من دونهم حجاباً
فأرسلنا إليـها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً )) ،
والروح كما قال المفسرون : هو جبريل عليه السلام
.
أو أن يكون المراد به الروح التي هي مـن
الله ، وهـذا يتفـق مع قـوله تعـالى : (( وكلمته
ألقاها إلى مـريم وروح منه )) ، ومعنى (( وروح منه)) أي
: أن الله أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل ،
وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة
روحاً ويضاف إلى الله ، فيقال هذا روح من الله : أي : من خلقه ، كما يقال في النعمة
أنها من الله ، وقيل (( روح
منه)) أي : من خلقه ، كما قال تعالى:
(( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض
جميعاً منه ))
، أي : من خلقه ، وقيل : (( روح منه )) أي
: رحمة منه ، وقيل : (( روح
منه)) أي : برهان منه ، وكان عيسى برهاناً
وحجة على قومه ، وقوله : ( منه) متعلق بمحذوف وقع صفة للروح ، أي : كائنة منه ،
وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكـونه تعالى الآمر لجـبريل بالـنفخ ،
ومثله قوله تعالى : (( والتي أحصنت فرجها
فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ،
وقــوله تعالى : (( ومريم ابنت عمران التي
احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربـها وكتبه وكانت من القانـتين
)) .
ت ـ وفي الإنجيل أيضاً أن مريم حينما زارت
إليصابات أم يحيى ـ عليه السلام ـ وسلمت عليها : (( فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها ،
وامتلأت إليصابات من الروح القدس )) ، وفي
الإنـجيل أيـضًا :
(( وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس ، وتنبأ قائلاً ،
مبارك الرب إله إسرائيل )) ، وفي الإنجيل أيضاً :
(( وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان ، وهذا
الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل ، والروح القدس كان عليه ، وكان قد أوحي
إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب))
، فهذه النصوص تدل : إما على أن الروح القدس هو
جبريل عليه السلام ، أو أنه البرهان الذي يؤيد الله به أولياءه من عباده المؤمنين
.
ث ـ أن نصوص أناجيلهم ذكرت أن المسيح ـ
عليه السلام ـ بعد أن تعمد على يد يحيى ـ عليه السلام ـ : (( وإذا السموات قد انفتحت له فرأي روح الله نازلاً مثل
حمامة وآتياً عليه )) ، وأن يحيى شهد أن
العلامة التي يعرف بها المسيح ، أن يرى أن روح القدس نازلاً ومستقراً عليه :
(( قائلاً إني قد رأيت الروح القدس نازلاً
مثل حمامة من السماء فاستقرت عليه ، وأنا لم أكن أعرفه ، لكن الذي أرسلني لأعمد
بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح
القدس )) ، ونزول الروح القدس من السماء يدل
على أنه ملك من الملائكة ، حيث دلت النصوص أن هذا النازل من السماء هو ملاك الله
جبريل عليه السلام .
كما أن هذه النصوص قد وصفت الروح بالنزول
مثل حمامة ، ومن المعلوم أن الروح القدس في عقيدة النصارى ، هو الأقنوم الإلهي
الثالث ، في الثالوث المقدس ، فالعجب كيف يرضى النصارى أن يكون الروح النازل بهذه
الصفة إلهاً يستحق العبادة مع الله ؟ وكيف يكون إلههم ومعبودهم جسماً بهذه الصفة من
الطيور المخلوفة ؟ إن هذا الاعتقاد ـ لاشك ـ أنه مسبة لمقام الألوهية ، إذ لم
يعرفوا الله حق المعرفة ، ولو عرفوا الله لما أشركوا معه آلهة أخرى ، فالله وحده هو
المعبود بحق ، لا إله غيره ولا رب سواه ، وعيسى عبد الله ورسله ، والروح القدس هو
ملاك الله جبريل ـ عليه السلام ـ المبلغ وحيه إلى أنبيائه ورسله ، والواجب عليهم
الاعتقاد أن هذا الروح النازل مثل حمامة على المسيح ـ عليه السلام ـ هو ملاك الله
جبريل أمين وحي الله إلى المسيح وإلى جميع الأنبياء عليهم السلام ، ويدل على ذلك ـ
إضافة إلى ما سبق الاشارة إليه من مصادرهم ـ أن من يسمونه بولس الرسول أخـبر
أن:(( جبرائيل روح الله الحي ))
.
ج ـ أن في قول نبي الله يحيى بن زكريا في
إنجيل متى : (( أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن
الذي يأتي من بعدى هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح
القدس ونار ))
، وقوله أيضاً في إنجيل لوقا : (( أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست
أهلاً أن أحل سيور حذائه ، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار )) ،
فهذه النصوص تدل على أن التعميد لم يكن باسم الثالوث المقدس ـ كما يعتقد النصارى ـ
بل هو بروح القدس فقط ، وهذا هو الذي اتفقت عليه نصوصهم المقدسة ، أن يحيى ـ عليه
السلام ـ شهد وبلغ بني إسرائيل بأن المسيح سيعمدهم بروح القدس ، وهذا يدل على بطلان
اعتقاد النصارى أن المسيح أمر تلاميذه ـ على زعمهم ـ أن يعمدوا الناس باسم الثالوث
المقدس حين قال : (( فاذهبوا وتلمذوا جميع
الأمم وعمـدوهم باسم الأب والابـن والـروح القـدس )) ،
علماً أنه لم يرد عن المسيح ـ عليه السلام ـ في الأناجيل والرسائل أنه عمد أحداً من
أتباعه باسم الروح القدس ، أو بأي واحد من الأقانيم الثلاثة ، ولو كان هذا هو
الاعتقاد الحق لأمر أتباعه بذلك ، بل لقد صرح أن الروح القدس الذي يعلمهم كل شيء لم
يأت بعد ؛ لأنه سيأتي في وقت لاحق ، إذ قال عليه السلام : (( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي ، فهو
يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم )) ،
وقال عليه السلام : (( وأما متى جاء ذاك روح
الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به
)) ، وقوله أيضاً : (( ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح
الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي )) ،
فكيف يكون الروح القدس إلهاً ثالثاً وهو لم يأت بعد ؟ وكيف يتعمدون باسم الثالوث
المقدس وهم ليسوا على يقين هل جاء كما أخبر المسيح ، أم أنه ما زال منتظراً ، وأي
حاجة لهم بانتظار من يأتي من بعده ، وهم قد غفرت ذنوبهم بموت المسيح على الصليب ـ
كما يعتقدون ـ يقول المهتدي عبد الأحد داود : إن الاعتقاد بأن موت عيسى
على الصليب قد فدى المؤمنين من لعنة الخطيئة الأصلية ، وأن روحه وبركته وحضوره في
القربان المقدس سيبقى معهم إلى الأبد ، هذا الاعتقاد تركهم دون حاجة إلى عزاء أو
مجئ معزٍّ ، ومن ناحية أخرى فإنهم إذا كانوا بحاجة إلى معزٍّ كهذا فإن جميع
الادعاءات والمزاعم النصرانية حول تضحية المسيح وتحمله آلام الصلب ، تتهافت وتصبح
باطلة ... إن فكرة وسيط بين الله والناس هي أكثر استحالة حتى من فكرة المعزي ، إذ
لا يوجد وسيط بين الخالق والمخلوق ، ووسيطنا أو شفيعنا المطلق هو وحدانية الله فقط
، إن المسيح كان ينصح بالصلاة إلى الله سراً والدخول في مقصوراتهم وإقفال الأبواب
عليهم عند أداء الصلاة ـ لأنه تحت هذه الظروف فقط يستمع (( أبوهم الذي في السماء )) لصلواتهم ويمنحهم بركته وغوثه ـ فإن المسيح لم يستطع أن يعدهم بوسيط
أو شفيع، فكيف نستطيع التوفيق بين هذه المتناقضات .
أما نحن المسلمين فإننا على يقين أن بشارات
المسيح بالمعزي الروح القدس الآتي ، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، كما
ذكر ذلك بعض المهتدين من النصارى ، وغيرهم من الباحثين المسلمين
.
ح ـ إن الروح القدس كان معروفاً في كلام
الأنبياء المتقدمين والمتأخرين ، وليس له مراد يخالف ظاهر ما دلت عليه نصوص الكتب
الإلهية التي ورد الاستشهاد بعدة نصوص منها ، يؤكد ذلك الإمام ابن تيمية ـ رحمه
الله ـ إذ يقول : وأما روح القدس : فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي
عندهم ، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم ، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم
وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء والصالحين ، والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح
بروح القدس ، كما قال الله تعالى : ((
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ،
في موضعين من البقرة ، وقال تعالى : (( يا
عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس )) ،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : (( إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه
)) ، وقال : (( اللهم أيده بروح
القدس ))
... وروح القدس قد يراد بها الملك المقدس كجبريل
، ويراد بها الوحي ، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته
، وقد يكونان متلازمين فإن الملك ينزل بالوحي ، والوحي ينزل به الملك ، والله يؤيد
رسله بالملائكة وبالهدى .. قال تعالى : ((
يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ، لينذر يوم التلاق )) ،
وقال تعالى : (( أولئك كتب في قلوبهم
الإيمان وأيدهم بروح منه )) ... وإذا كان
روح القدس معروفاً في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على
أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر ، أو وحياً وتأييداً مع
الملك وبدون الملك ، وليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به ، كما قال
(المسيح) : (( عمدوا الناس باسم الأب والابن
وروح القدس ))
، ومراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي
أرسله ، وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به ، فيكون ذلك أمراً لهم بالإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح
المنقول ، فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي
عندهم ويوافق القرآن والعقل أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول ،
وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف ، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى
ما يخالف ظاهره ، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة
المألوفة في خطاب المسيح وخطاب سائر الأنبياء .
خ ـ أن ما جاء في رسائل بولس من عبارات
تنسب إلى الروح القدس مايمكن أن ينسب إلى أسماء الله وصفاته وأعماله وعبادته ،
وبالأخص قوله : (( نعمة ربنا يسوع
المسيح ، ومحبة الله ، وشركة الروح القدس مع جميعكم ، آمين )) ،
هذه العبارات هي التي حملت النصارى على الاعتقاد بألوهية المسيح وألوهية الروح
القدس ، وهي التي فتحت الباب إلى القول بالتثليث ، ومع ذلك فإن استدلالهم بهذه
العبارات باطل ومردود ، للأدلة الآتية :
1 ـ أنه ليس فيها مايدل
على أن لفظ الروح القدس معناه الإله ، وليس فيها مايدل على مايمكن أن ينسب إليه من
أسماء الله وصفاته وأعماله وعبادته ، وأنه ـ على زعمهم ـ الأقنوم الثالث في ثالوثهم
المقدس ، بل الحق أنها تدل على معنى القوة والثبات التي يؤيد الله بها من يشاء من
عباده المؤمنين ، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص العهد القديم والعهد الجديد ، فلفظ
الروح القدس لاتخرج عن هذا المعنى الذي سبق بيانه في الفقرات السابقة ، ولاعن
المعاني التي سبق بيانها عند الحديث عن حقيقة الروح القدس في المبحث الأول
.
2 ـ أنه ـ على فرض ـ أن بولس يعني بهذه
العبارات ألوهية المسيح وألوهية الروح القدس ، فإنه يكون قد خالف أقوال المسيح ـ
عليه السلام ـ التي تدل على بطلان هذا الزعم الباطل ، ويكون قد دعا إلى عقيدة تخالف
العقيدة التي دعا إليها المسيح ، وشرع خلاف شريعة المسيح ، علماً أنه ليس من تلاميذ
المسيح ولا من رسله ، ولم يشاهد المسيح إطلاقاً ، ولا سمعه يبشر بدعوته ، بل كان من
أشد اليهود عداء للمسيح وأتباعه ، فقد كان يسافر من القدس إلى دمشق ليأتي بالنصارى
لعقابهم وإنزال الأذى بهم ، ثم بعد زعمه الانضواء تحت ظل النصرانية ، ظل موضع شك
تلاميذ المسيح في صدق دعواه ؛ لأنهم رأوا منه مايخالف دين المسيح ـ عليه السلام ـ
فقد اختلف بولس مع برنابا أحد تلاميذ المسيح ، كما أن بطرس رئيس الحواريين أنكر على
بولس دعوته التي خالف بها دعوة المسيح ، كما قامت ضده طوائف النصارى في آسيا ،
ورفضت تعاليمه وإنجيله كما اعترف بذلك في رسالته الثانية إلى تيموثاوس ، وحين يئس
من قبول نصارى الشرق في عصره لتعاليمه الغريبة ، فقد التجأ إلى الشعوب الأوربية ،
وصار يبث بينهم تعاليمه شيئا
فشيئا ، حتى تمكن منهم ، فأباح لهم كافة المحرمات ، ورفع عنهم جميع التكاليف من الشريعة الموسوية التي جاء بها المسيح ـ عليه السلام ـ فوافق مذهبه مشارب الوثنيين في أوربا ، فكثر تابعوه ومقلدوه في حياته وبعد مماته ، التي خالفوا فيها عقيدة المسيح وأتباعه ، كما دل على ذلك رسالته إلى أهل رومية التي أبطل فيها شريعة التوراة .
فشيئا ، حتى تمكن منهم ، فأباح لهم كافة المحرمات ، ورفع عنهم جميع التكاليف من الشريعة الموسوية التي جاء بها المسيح ـ عليه السلام ـ فوافق مذهبه مشارب الوثنيين في أوربا ، فكثر تابعوه ومقلدوه في حياته وبعد مماته ، التي خالفوا فيها عقيدة المسيح وأتباعه ، كما دل على ذلك رسالته إلى أهل رومية التي أبطل فيها شريعة التوراة .
وبهذا يتبين أن بولس هو الذي وضع البذور التي نقل بها النصرانية من
التوحيد إلى التثليث ، ووافقت فكرة التثليث الجماهير التي كانت قد نفرت من اليهودية
لتعصبها ، ومن الوثنية لبدائيتها ، فوجدت في الدين الجديد ملجأ لها ، وبخاصة أنه
أصبح غير بعيد عن معارفهم السابقة التي ألفوها وورثوها عن أجدادهم .
وهذا التحريف لدين المسيح الحق الذي أحدثه
بولس ، اعترف به بعض علماء النصارى قديماً وحديثاً ، يقول جورجيا هاركنس من علمائهم
:
(( وهذا التثليث افترضه بولس في نهاية رسالته الثانية إلى كورنثوس ، حيث
يعطي الكنيسة بركته بقوله : (( نعمة ربنا يسوع المسيح ، ومحبة الله ،
وشركة الروح القدس مع جميعكم ، آمين )) ، وتستعمل هذه الكلمات كبركة في
ختـام خدمات العبـادة لقـرون عـديدة )) .
وهذا الباب الذي فتحه بولس على النصرانية ،
ظل ـ كما يقول الدكتور أحمد شلبي ـ : (( مفتوحاً
، واستطاع بعض أتباع بولس أن يصيروا من آباء الكنيسة وذوي الرأي فيها ، وتم امتزاج
تقريباً بين آراء مدرسة الإسكندرية وبين المسيحية الجديدة )) ، ثم ذكر
الدكتور شلبي قول ( ليون جوتيه) : (( إن المسيحية تشربت كثيراً من
الآراء والأفكار الفلسفية اليونانية ، فاللاهوت المسيحي مقتبس من المعين الذي صبت
فيه الإفلاطونية الحديثة ، ولذا نجد بينهما مشابهات كثيرة ))...))
.
وهكذا فإن بولس سواء قال بألوهية المسيح
وألوهية الروح القدس أولم يقل ، وسواء قال بالتثليث أولم يقل ، فإن أقواله تلك حملت
النصارى من بعده على القول بالتثليث ، وأصبحت كلماته التي جاء بها في رسائله كتاباً
مقدساً ، له ماللإنجيل من حرمة واحترام ، فتناولها الشراح والدارسون من رجال الدين
بكل مايملكون من طاقات البحث والنظر ، وخرجوها على كل وجه ممكن أو غير ممكن ، فكانت
منها تلك الفلسفة اللاهوتية التي شغلت العقل النصراني ولاتزال تشغله ، فكانت سبباً
من أكبر الأسباب في نقل ديانة المسيح ـ عليه السلام ـ من التوحيد إلى الشرك .
ومع صريح ما تدل عليه ظاهر نصوص كتبهم
المقدسة بشأن حقيقة الروح القدس ، وبطلان اعتقاد النصارى ألوهيته ، وأنه الأقنوم
الإلهي الثالث في ثالوثهم المقدس ، فإنهم يعتقدون أنه غير ملاك الله جبريل ـ عليه
السلام ـ كما يعتقدون خصوصية حلول الروح القدس على المسيح وعلى المؤمنين من أتباعه
وأنه يلهمهم ، وبيان ذلك والرد عليه في المبحث القادم إن شاء الله
.