علمنا فيما سبق حقيقة الروح في الكتاب والسنة وفي العهد
القديم وفي العهد الجديد ، وأنه ورد ذكرها فيها مضافة إلى الله ، وإلى القدس ،
وبدون إضافة ، وأنها قد تكون المراد منها الوحي الإلهي ، أو القوة والثبات والنصرة
التي يؤيد الله بها من يشاء من عباده المؤمنين ، أو جبريل ـ عليه السلام ـ أو
المسيح ـ عليه السلام ـ حسب مناسبة ورودها في التوراة والإنجيل والقرآن ، التي تقدم
ذكر شواهد منها للدلالة على ذلك .
وفي هذا المبحث سيكون الحديث ـ إن شاء الله
ـ في الرد على اعتقاد النصارى أن الروح القدس غير جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى
اعتقادهم خصوصية حلول الروح القدس على المسيح وعلى المؤمنين من أتباعه وأنه يلهمهم
، وبيان ذلك فيما يأتي :
المطلب الأول : جبريل والروح القدس
:
يعتقد النصارى أن ملاك الله جبريل ـ عليه
السلام ـ غير الروح القدس ، ويستدلون على الفرق بينهما ببعض النصوص من كتابهم
المقدس ، التي تذكر ملاك الله جبريل أنه يأتي بالبشارة لمن يرسله الله إليهم ،
وأنهم بعد هذه البشارة يحل عليهم الروح القدس ، وهذا هو دليلهم على الفرق بينهما
.
واستناداً على هذا الفرق بينهما فإن جبريل
في تعريفهم هو : (( ملاك ذي رتبة رفيعة ، أرسل ليفسر رؤيا لدانيال ،
وبعث مرة في زيارة لنفس النبي ليعطيه فهماً ، وليعلن له نبوة السبعين أسبوعاً ، وقد
أرسل إلى أورشليم ليحمل البشارة لزكريا في شأن ولادة يوحنا المعمدان ، وأرسل أيضاً
إلى الناصرة ليبشر العذراء مريم بأنها ستكون أماً للمسيح ، وقد وصف جبرائيل نفسه
بأنه واقف أمام الله )) .
ومن النصوص التي ذكرت بشارة ملاك الله
جبريل لمن أرسله الله إليهم ، ثم حلول روح القدس عليهم ، بشارة جبريل لزكريا بميلاد
يوحنا وقوله له : (( ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس
)) ، وبشارة جبريل لمريم بميلاد المسيح وقوله لها : (( الروح القدس يحل عليك )) ،
وحينما قامت مريم بزيارة إليصابات زوجة زكريا وسلمت عليها : (( فلما سمعت إليصابات سلام مريم ارتكض الجنــين في بطنها
، وامتلأت إليصــابات من الروح القدس )) ،
وكذلك زكريا : (( وامتلأ زكريا أبوه من
الروح القدس )) .
فهذه النصوص من أدلتهم على الفرق بين جبريل
والروح القدس ، ثم بعد حين من الزمن اعتقدوا ألوهيته وقالوا في قانون إيمانهم إنه :
(( الرب المحيي المنبثق من الآب ، المسجود
له والممجد مع الآب والابن ، الناطق في الأنبياء )) ،
واستدلالهم بتلك النصوص مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول ، وبيان ذلك :
1 ـ أن الروح القدس في عقيدتهم هو الإله
الذي حبلت منه العذراء مريم ببشارة جبريل لها لتلد المسيح (الابن) ، فالأقنوم
الثالث حل في بطن مريم لتلد الأقنوم الثاني (الابن) .
وهذا الاعتقاد ظاهر البطلان ؛ إذ كـيف يكون
الروح القـدس جبريل ـ عليه السلام ـ وهو أحد الملائكة المخلوقين من الله ـ كما
عرفنا حقيقته ـ يبشر مـريم الإنسان المخلوق ، بحلول الإله الروح القدس عليها ، لتلد
الإله المسيح ، فهـذا يتنافى مع مقام الإله سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر ،
وهذا افتراء على الله ، تعـالى الله عن قولهم .
2 ـ ثم ـ على فرض صحة قولهم ـ كيف يتجسد
الإله الأعلى الأقنوم الثاني وهو المسيح ، من الإله الأدنى الأقنوم الثالث وهو
الروح القدس ، في بطـن الإنسـان المخلوق مريم ، وهـذا أيضاً من الافتراء والقول على
الله وعلى رسـله وملائكته بغير علم
3 ـ كما أن الروح
القدس الإله ـ على زعمهم ـ هو الذي حل في أناس مختارين لكتابة الوحي الإلهي ، فكيف
يكون الوحي الإلهي من الله الأب ، إلى الله الروح القدس ، ومن ثم إلى أناس مختارين
؟ وهذا أيضاً من التناقض والافتراء .
4 ـ كما أن في الإنجيل أن أبا يحيى امتلأ من الروح القدس :
(( وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس
))
, وكذلك أم يحيى حين زارتها مريم أم المسيح
وسلمت عليها : (( فلما سمعت إليصابات سلام
مريم ارتكض الجنين في بطنها ، وامتلأت إليصابات من الروح القدس )) ،
فهل يعني هذا أن الروح القدس ، وهو الإله ـ حسب عقيدتهم ـ حل أيضاً في هؤلاء ؟ تعلى
الله عن قولهم .
5 ـ وإذا كان الروح القدس الإله في عقيدتهم
، له كل هذه الأفعال والأعمال ، فما هي فائدة وجود إله ثان هو المسيح ، وما هو أثره
في حياتهم ؟ أليس من الواجب على النصارى حينئذ أن يتوجهوا في دعائهم إلى الروح
القدس بدلاً من المسيح الذي على زعمهم : (( صعد إلى
السموات وجلس عن يمين الأب )) ، والذي على
زعمهم أيضاً : (( يأتي في مجده ليدين
الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء )) ،
وزعمهم هذا يخالف صريح المعقول ، وصحيح المنقول ، فالمسيح ـ عليه السلام ـ أمرهم أن
يتوجهوا في صلاتهم إلى الله وحده الذي له الملك والقـوة والمجد إلى الأبد ، قال
عليه السلام :(( فصلوا أنتم هكذا : أبانا
الذي في السموات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك ، كما في السماء كذلك
على الأرض ، خبزنا كفانا اعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين
إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير ، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى
الأبد آمين )) .
ثم قال لهم المسيح : (( فإنه إن
غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا
يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم )) ، وفي
الإنجيل : (( ونعـلم أن الله لا يسمع للخطاة
، ولكن إن كان أحـد يتقي الله ويفعـل مشيئته فلهذا يسمع )) ،
وقال المسيح عليه السلام : (( ليس كل من
يقول لي يارب يا رب يدخل ملكوات السموات ، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات
)) .
هذه النصوص وغيرها ، تفيد أن المسيح ـ عليه
السلام ـ كان يأمر تلاميذه بالتوجه إلى الله في الصلاة وطلب المغفرة ؛ لأن الله لا
يستجيب لأحد مالم يتقه ويفعل مشيئته ، ولا أحد يدخل ملكوت السموات ما لم يفعل إرادة
الله وحده .
ولو كان المسيح نفسه ، أو الروح القدس ،
لهم شيء من هذه الصفات الإلهية ، لكان المسيح أولى بها من الروح القدس ، فكيف وأن
المسيح نفسه يأمر تلاميذة وكل المؤمنين به أن يكون توجههم لله دون سواه ، قال
المسيح عليه السلام : (( لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه
وحده تعبد )) ، وقال أيضاً : (( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي
وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته ، أنا مجدتك على الأرض ، العمل الذي أعطيتني لأعمل
قد أكملته )) .
فالمسيح ـ عليه السلام ـ عبد الله ورسوله ،
وكذلك الروح القدس هو ملاك الله جبريل ـ عليه السلام ـ فهو رسول الله بالوحي
للأنبياء ، وبالنصر والتأييد لهم ولغيرهم من أولياء الله الصالحين ، كما تبين لنا
ذلك عند الحديث عن حقيقة الروح القدس .
6 ـ كما أن في قولهم في قانون إيمانهم : إن
الروح القدس الرب المحيي المنبثق من الآب ـ حسب عقيدة الارثوذكس ـ أو المنبثق من
الأب والابن ـ حسب عقيدة الكاثوليك والبروتستانت ـ قولهم هذا فيه تناقض واضطراب ،
فكيف يكون الروح القدس رباً محيياً وهو منبثق من موجد الحياة وهو الله سبحانه
وتعالى ، أو منبثقاً من الآب والابن ، والابن ـ حسب زعمهم ـ مولود من الآب ، ومعلوم
أن الابن متأخراً عن وجود الآب ، وهذا يعني أن الانبثاق من الابن جاء متأخراً ، فهل
هذا الانبثاق جاء على مرحتلين ـ هذا على فرض صحة معتقدهم ـ الواقع أنهم لن يجيبوا
على ذلك بأفضل مما جاء في قانون إيمانهم المقدس .
7 ـ ثم إن الروح القدس المنبثق من الآب ، أو
من الآب والابن ، والابن هو المسيح عندهم مولود من الآب ، فهل الانبثاق والولادة
شيء واحد أم يختلفان ؟ ، وهم لن يقولوا إن المسيح مولود من الآب ولادة تناسلية من
الله ، ولا يعتقدون ذلك ، بل سيقولون إن الولادة روحية ، لأن المسيح ـ حسب أعتقادهم
ـ هو الكلمة التي خرجت من الذات ـ وهو الله ـ فصارت الكلمة ابناً للذات ، وصارت
الذات أباً للكلمة ، وصارت كلاً مـن الذات والكلمة أقنوماً قائماً بـذاته ، يـدعى
الأول الله الأب ، ويـدعى الثاني الله الابن .
والروح القدس ـ عندهم ـ يمثل عنصر الحياة في
الثالوث المقدس ، ويعتبر أقنوماً قائماً بذاته ، وإلهاً مستقلاً بنفسه ، والثالوث
المقدس ثلاثة أقانيم هي : الذات والنطق والحياة ، فالذات هو الله الآب ، والنطق أو
الكلمة هو الله الابن، والحياة هي الله الروح القدس ، ويعتقدون أن الذات والد النطق
أو الكلمة ، والكلمة مولودة من الذات ، والحياة منبثقة من الـذات أو من الذات
والكلـمة على خـلاف بين الكنـائس .
ويتضح أنه لا يوجد فرق بين معنى الانبثاق ،
ومعنى الولادة ، إذا كانت روحية ، فكلاهما : الابن ـ وهو الكلمة ـ مولود من الله ،
والروح القدس ـ وهو الحياة ـ منبثق من الله ، فيلزم أن يكون الابن والروح القدس
أخوين ، وأن الله أبوهما ، تعالى الله وتقدس عن ذلك .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
(( فقولهم : المنبثق من الآب الذي هو مسجود له وممجد ،
يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به ، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات ،
إذ لو كان القائم بنفسه منبثقاً لكان علمه وقدرته ، وسائر صفاته منبثقة منه ، بل
الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة فإن الكلام يخرج من المتكلم ، وأما الحياة
فلا تخرج من الحي ، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ،
ويقولون : هي العلم والكلام أو النطق والحكمة أولى بأن تكون من الحياة التي هي أبعد
عن ذلك من الكلام ، وقد قالوا أيضاً : إنه مع الآب مسجوداً له وممجد ، والصفة
القائمة بالرب ليست معه مسجوداً لها ، وقالوا : هو ناطق في الأنبياء وصفة الرب
القائمة به لا تنطق في الأنبياء ، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في
قلوب الأنبياء ، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل ، فإذا كان هذا منبثقاً من الأب ،
والانبثاق الخروج ، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا . وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من
الشمس كان هذا باطلاً من وجوه ، منها : أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض ، وليس
جوهراً قائماً بنفسه ، وهذا عندهم حي مسجود له ، وهو جوهر . ومنها : أن ذلك الشعاع
القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ، ولا قائماً بها وحياة الرب صفة قائمة به .
ومنها : أن الانبثاق خصوا به روح القدس ، ولم يقولوا في الكلمة إنها منبثقة ،
والانبثاق لو كان حقاً لكان الكلام أشبه منه بالحياة ، وكلما تدبر أجهل العقلاء
كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى على العباد ، ووجد
فيه من مناقضة التوراة والإنجيل ، وسائر كتب الله ما لا يخفى على من تدبر هذا وهذا
، ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول ، فقولهم
متناقض في نفسه ، مخالف لصريح المعقول ، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين
صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين )) .
المطلب الثاني : المسيح والروح القدس
:
ثبت ـ كما علمنا ـ بالأدلة الصريحة ، أن
الروح القدس هو جبريل ، وجبريل هو الروح القدس ، وعليه فإن زعم النصارى حلول الروح
القدس على المسيح وحلوله على الملهمين من أتباعه دون سواهم باطل ، وبيان ذلك
:
1 ـ أنه قد ثبت بالأدلة الصريحة ، أن الروح
القدس هو ملاك الله الذي ينزل بالوحي الإلهي ، وهو الذي يؤيد الله به أنبياءه ورسله
، ومن يشاء من عباده وأوليائه الصالحين وأهل التوراة وهم اليهود يعلمون أن روح
القدس هو جبريل عليه السلام : (( ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه ،
فتحول لهم عدواً وهو حاربهم )) ، لذلك حرصوا
على سؤال الأنبياء عن الروح الذي يأتي بالوحي من السماء ، فإن كان جبريل أعرضوا عن
النبي ولم يسمعوا دعوته ، وقد سبق الحديث في بيان عداوتهم له وعن سؤالهم النبي صلى
الله عليه وسلم ، عن الذي يأتيه بالوحي ، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه
جبريل ، قالوا : ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ، ذاك عدونا ، لو قلت : ميكائيل
الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك ، فأنـزل الله تعالى : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك
)) إلى قوله : (( فإن الله عـدو للكافرين )) .
2 ـ أن جبريل عليه السلام هو روح الله الذي
جاء في الإنجيل أن مريم : (( وجدت حبلى من الروح القدس
)) ، وهو العلامة التي عرف بها يحيى عليه السلام المسيح أنه يرى :
(( الروح القدس نازلاً ومستقراَ عليه
)) ، وهو الذي أخبر الله عنه أنه أيد به
المسيح عليه السلام ، قال تعالى : (( وآتينا
عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ،
وقوله تعالى: (( إذ قال الله يا عيسى ابن
مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس )) ، وهو
الذي بأمر الله نفخ الروح في مريم ، قال تعالى : (( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها مـن روحنا وجعـلناها
وابنها آية للعالمين )) .
وهو أيضاً الذي نزل بالوحي على النبي صلى
الله عليه وسـلم ، قال تعـالى: (( قل نزله
روح القدس من ربك بالحق )) ، وقوله تعالى :
(( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من
المنذرين بلسان عربي مبين )) ، وغير ذلك من
الأعمال التي أوكل الله بها جبريل عليه السلام ، كما تقدم بيان ذلك
.
3 ـ أن الروح القدس يسمى أيضاً روح الله ،
ويسمى الروح ـ بـدون إضافة ـ ورد ذكر ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن
:
1. ففي التوراة أنه يهب القوة :
(( فكان
عليه روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب )) ،
وجاء أيضاً : (( فحل عليه روح الرب فشقه كشق
الجدي وليس في يده شيء )) ، وجاء أيضاً :
(( وحل عليه روح الرب فنزل إلى أشقلون وقتل
منهم ثلاثين رجلاً وأخذ سلبهم )) ، وأنه يهب الحكمة والفهم
والمعرفة : (( وملأته من روح الله بالحكمة
والفهم والمعرفة وكل صنعة )) ، وأنه يهـب قلباً جديداً وروحاً
جديداً : (( وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل
روحاً جـديداً في داخـلكم ... وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي
وتحفظون أحكامي وتعملون بها)) ، وغير ذلك من النصوص
.
2. كما جاء في الإنجيل أن الروح القدس مؤيد للمسيح في دعـوته ومعجزاته ،
إذ جاء فيه : (( وأما يسوع فرجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس ،
وكان يقتاد بالروح في البرية )) ، وجاء فيه
: (( ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل...
وكان يعلم في مجامعهم )) ، ويقول المسيح عليه السلام :
(( روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر
المساكين ، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب )) ، وأن الروح هو الذي أيد المسيح في إجراء المعجزات ، ففي سفر أعمال
الرسل : (( يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه
الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن
الله كان معه ))
، فالروح القدس في هذه النصوص هي القوة التي
أيَّد الله بها المسيح ـ عليه السلام ـ والتي استطاع بها صنع المعجزات وشفاء
الأمراض ، وهذه القوة العلوية التي تسمى الروح القدس ليست قوة مادية منظورة ، وليست
إلهاً قائماً بذاته ـ كما يعتقد النصارى ـ وإنما هي قوة روحية قدسية من لدن الله
تعالى ، كما أيد بها من سبقه من أنبيائه ورسله وأوليائه الصالحين ، وهذا هو المعنى
الذي دل عليه قول المسيح عليه السلام : ((
إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله
)) ، فالمسيح ـ عليه السلام ـ يشفي الأمراض
ويخرج الشياطين بروح الله ، أي بقوة من الله، ولا يتصور أحد أن روح الله التي
يقصدها المسيح هنا هي الله ذاته ، أو أنها جزء من الله .
كما جاء في الإنجيل أن المسيح ـ عليه
السلام ـ أخبر تلاميذه أن روح الله يهب القوة والتأييد فقال : (( وأنا
أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ، روح الحق الذي لا يستطيع
العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه )) ،
وأنه يهب العلم : (( وأما المعزي الروح
القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم
)) ، وأنه الذي يلهم للحق : (( لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم
فيكم ))
، وأنه يجب الإيمان به وعدم الكفر به :
(( لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس
، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له ،
وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي
)) .
فهذه النصوص من التوراة والإنجيل تفيد أن
حلول الروح القدس ليس خاصاً بالمسيح ـ عليه السلام ـ ولا بمن يزعم النصارى أنه
يلهمهم ويحل عليهم ، وإنما الروح هو الذي يؤيد الله به من يشاء من عباده
، وهذا دليل على أن الروح ليس إلهاً كما يعتقد النصارى ، وإنما هو ملاك من ملائكة
الله ، وهو جبريل عليه السلام .
3. كما جاء في القرآن الكريم ما يصدق ما جاء
في الكتب الإلهية السابقة عن حقيقة الروح القدس ، وصفاته ، والأعمال الموكولة إليه
ـ كما سبق الاستشهاد بهذه الآيات في مواضع سابقة ، كما ثبت في السنة
النبوية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لحسان بن ثابت : (( إن روح
القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه )) ، وقوله : (( اللهم أيده بروح القدس )) ، ويستشهد ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث على عدم خصوصية
المسيح بتأييد الروح القدس له دون سواه ، فيقول : (( فهذا حسان بن ثابت
واحد من المؤمنين لما نافح عن الله ورسوله ، وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول
أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام ، وأهل الأرض يعلمون أن محمداً صلى
الله عليه وسلم لم يكن يجعل اللاهوت متحداً بناسوت حسان بن ثابت ، فعلم أن إخباره
بأن الله أيده بروح القدس لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت ، فعلم أن التأييد بروح
القدس ليس من خصائص المسيح ، وأهل الكتاب يقرون بذلك ، وأن غيره من الأنبياء كان
مؤيداً بروح القدس ، كداود وغيره ، بل يقولون : إن الحواريين كانت فيهم روح القدس ،
وقد ثبت باتفاق المسلمين واليهود والنصارى أن روح القدس يكون في غير المسيح ، بل في
غير الأنبياء )) .
كما بين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد أن
ذكر قول داود عليه السلام :
(( وروح قدسك لا تنزعه مني )) ، عدم خصوصية الروح القدس بالمسيح عليه السلام فقال : ((
هذا دليل على أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس ، فعلم بذلك أن روح
القدس لا تختص بالمسيح ، وهم يسلمون ذلك ، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير
موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح ، في داود ، وفي الحواريين ، وفي غيرهم ،
وحينئذٍ فإن كان روح القدس هو حياة الله ، ومن حلت فيه يكون لاهوتاً ، لزم أن يكون
إلهاً ، لزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح ، وهذا خلاف إجماع
المسلمين والنصارى واليهود ، ويلزم من ذلك أن يكون المسيح فيه لاهوتان : الكلمة ،
وروح القدس ، فيكون المسيح من الناسوت : أقنومين أقنوم الكلمة ، وأقنوم روح القدس ،
وأيضاً فإن هذه ليست صفة لله قائمة به ، فإن صفة الله القائمة به ، بل وصفة كل
موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره ، وليس في هذا أن الله اسمه روح القدس ، ولا أن حياته
اسمها روح القدس ، ولا أن روح القدس الذي تجسد منه المسيح ، ومن مريم هو حياة الله
سبحانه وتعالى ، وأنتم قلتم : إنَّا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات
أنفسنا ، ولكن الله سمى لاهوته بها ، وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى
نفسه ، ولا شيئاً من صفاته روح القدس ، ولاسمى نفسه ولا شيئاً من صفاته ابناً ،
فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس، ولصفته التي هي العلم بالابن .
وأيضاً فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح ، فإذا كانت روح القدس في داود
عليه السلام والحواريين وغيرهم بطل ما خصصتم به المسيح ، وقد علم بالاتفاق أن داود
عبد الله عز وجل ، وإن كانت روح القدس فيه ، وكذلك المسيح عبد الله وإن كانت روح
القدس فيه ، فما ذكرتموه عن الأنبياء ، حجة عليكم لأهل الإسلام ، لا حجة لكم
)) .
ويدل أيضاً على عدم خصوصية الروح القدس
بالمسيح ـ عليه السلام ـ ولا بغيره ، أن النصارى يقرون أن الروح القدس ناطق في
الأنبياء ، إذ قالوا في قانون إيمانهم المقدس : (( الناطق
في الأنبياء )) ، ويسمى ـ في زعمهم ـ حياة
الله ، وإذا كان كذلك فهذا باطل ، إذ يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ((
وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره ، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء
والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به ، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو
أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلهاً معبوداً قد اتحد ناسوته باللاهوت
كالمسيح عندكم ، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتاً ولاهوتاً ، فإذا
كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقاً في الأنبياء كان كل منهم فيه
لاهوت وناسوت كالمسيح ، وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع
إثباتكم لغيره ما ثبت له ))
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر : (( وهم إما أن يسلموا
أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله ، فإذا ثبت أن لها معنى غير
الحياة ، فلو استعمل في حياة الله أيضاً لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح ،
فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح ، وأما أن يدعوا أن المراد بها حياة
الله في حق الأنبياء والحواريين ، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالاً في
جميع الأنبياء والحواريين ، وحينئذٍ فلا فـرق بين هـؤلاء وبين المسيح ))
.
وبهذا يتبين حقيقة الروح القدس وأنه جبريل ـ
عليه السلام ـ وبطلان اعتقاد النصارى ألوهيته ، وبطلان اعتقادهم خصوصية المسيح
بحلول الروح القدس عليه أو على غيره دون سواهم .
خاتمة البحث :
وبهذا نأتي على ختام هذا البحث في هذه
الدراسة العلمية النقدية عن اعتقاد النصارى ألوهية الروح القدس وأنه الرب المحيي ،
وقد توصلت إلى النتائج الآتية :
1 ـ أن الروح القدس في الكتب الإلهية هو ما
يؤيد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين من النصر والتأييد ، ويأتي بمعنى الوحي
الإلهي ، وبمعنى جبريل عليه السلام ، لكن أهل الكتاب لا سيما اليهود حرفوا معنى
الروح القدس عن جبريل عليه السلام لزعمهم أنه عدوهم ، ثم تابعهم النصارى ، وبعدها
اختلفوا في تأويله ، وآل أمرهم في نهاية الأمر إلى تأليهه ، لأن تأليههم للمسيح ـ
عليه السلام ـ هو الذي قادهم لتأليه الروح القدس ، لأنهم تصوروا أنه حين حبلت مريم
بحلول الروح القدس فيها ، أنها حبلت بالإله المسيح من الإله الروح القدس
.
2 ـ إن إقرار ألوهية الروح القدس ، حدث بعد رفع المسيح ـ عليه السلام ـ
بعدة قرون ، وهو من ابتداع الأحبار والرهبان الذين قاوموا عقيدة التوحيد التي جاء
بها المسيح عليه السلام ، وكان إقرارهم لهذا الاعتقاد على مراحل عديدة وبعد النزاع
والصراع بين التوحيد والوثنية التي تؤيدها الأباطرة الذين كانوا ما زالوا على
وثنيتهم ، فجاءت قرارات مجامعهم تبعاً لبدعهم وأهوائهم التي ضلوا فيها عن الحق
.
3 ـ أن اعتقادهم
ألوهية الروح القدس نتيجة لتأويلهم النصوص المتشابهة وجعلها دليلاً على معتقدهم ،
وتركهم النصوص المحكمة التي ترد باطلهم وإعراضهم عنها، رغم أنها صريحة في معانيها
تؤيدها نصوص الكتب الإلهية السابقة ، وأناجيلهم المقدسة، وشهادة القرآن الكريم لما
ورد فيها من الحق ، ورده لما فيها من الباطل .
4 ـ أن الروح القدس هو جبريل عليه السلام ،
وكان سبب ضلالهم أنهم زعموا أن الروح القدس غير جبريل ، لأنهم حينما رأوا نصوصهم
تارة تذكر الروح القدس، وتارة تذكر جبريل ظنوا أنهما شيئان مختلفان ، فنسبوا إلى
الروح القدس الصفات الإلهية التي جعلتهم يعتقدون ألوهيته ، ولو تدبروا الأمر
لوجدوهما شيئاً واحداً كما تشهد بذلك نصوصهم المقدسة .
5 ـ أن الروح القدس ليس خاصاً بالمسيح فقط
ولا بمن زعموا حلوله عليهم ، بل إن الله أيد به الأنبياء والرسل السابقين وعباده
المؤمنين ، ونصوصهم شاهدة في أن روح القدس حل في كثير من الأنبياء ، وفي الحواريين
وفي غيرهم ، وأن روح القدس يأتي بمعنى القوة والنصر والتأييد، وبمعنى
الوحي ، وهو أيضاً اسم لجبريل عليه السلام ، وهذا يرد باطلهم في الاعتقاد بألوهيته خلاف ما أخبر الله عنه في الكتب الإلهية .
الوحي ، وهو أيضاً اسم لجبريل عليه السلام ، وهذا يرد باطلهم في الاعتقاد بألوهيته خلاف ما أخبر الله عنه في الكتب الإلهية .
وفي ختام هذه الخاتمة أرجو الله أن أكون قد
وفقت للصواب ، وأن يكون عملي خالصاً لوجه الله ، وبالله التوفيق وهو المستعان ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الروح القدس في عقيدة النصارىدراسة نقدية في ضوء المصادر
الدينية -
للدكتور . عبد الله بن عبد العزيز الشعيبي