مصادر عقيدة الفداء والخلاص
الخلاص والفداء في الأسفار الكتابية
كما ينبغي حمل النصوص المتحدثة عن المسيح المخلص على المعاني التي أطلقها الكتاب، لا المعاني التي يقررها بولس والكنيسة في مجامعها، فقد تحدث الكتاب المقدس عن عدد من الفادين والمخلصين، وليس في شيء منها المعنى الذي زعمه بولس وأضرابه.
فقد سمت التوراة موسى فادياً، وهو لم يمت كفارة لأحد، "هذا موسى الذي أنكروه قائلين: من أقامك رئيساً وقاضياً، هذا أرسله الله رئيساً وفادياً بيد الملاك الذي ظهر له في العليقة، هذا أخرجهم صانعاً عجائب وآيات في أرض مصر وفي البحر الأحمر، وفي البرية أربعين سنة" (أعمال 7/35)، فالمقصود الخلاص الدنيوي من يد فرعون وجنوده.
وهذا المعنى من معاني الفداء والخلاص معروف في الأسفار التوراتية التي تحدثت عن الفادي من أهوال الدنيا وشدائدها، وهي تذكر نجاة بني إسرائيل من المصائب "أخرجكم الرب بيد شديدة، وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر" (التثنية 7/8)، ومثله في (التثنية 13/5).
ومثله في قوله: "اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بري في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم " (التثنية 21/8-9).
وكذا في سفر المزامير سمى الربَ فادياً "الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب" (المزامير 34/22).
وفي نص آخر يؤكد إشعيا هذا المعنى للفداء والخلاص، فيقول: " هكذا قال الرب فادي إسرائيل: قدوسُه للمهان النفس، لمكروه الأمة، لعبد المتسلطين" (إشعيا 49/7)، فأطلق على الله لقب الفادي والمخلص، فالفداء أو الخلاص له معان أوسع من الذبيحة والمعاوضة التي يصر عليها بولس.
ومن هذا النوع من الخلاص ما قام به المخلص أهود "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب، فأقام لهم الرب مخلّصاً أهود بن جيرا البنياميني" (القضاة 3/15).
فهذه النصوص جميعاً تتحدث عن فداء وخلاص أرضي، وهذا الخلاص رحمة من الله وفضل، ولا يحتاج لدم يسفحه الفادي.
ومهمة الخلاص والفداء الذي سيقدمه المسيح لا تختلف عن هذا المعنى، فقد حصر زكريا الكاهن مهمة الفداء المسيحي بالفداء والخلاص الأرضي ، فالمسيح القادم سيخلص شعبه من أعدائهم، كما تتابع على البشارة الأنبياء، ومثلهم زكريا فقد " تنبأ قائلاً: مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه، كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر، خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا، ليصنع رحمة مع آبائنا ويذكر عهده المقدس، القسم الذي حلف لإبراهيم أبينا، أن يعطينا أننا بلا خوف مُنقَذين من أيدي أعدائنا نعبده، بقداسة وبر قدامه جميع أيام حياتنا" (لوقا 1/67-75).
ثم شرع زكريا بالحديث عن ابنه المعمدان مبيناً دوره في هداية قومه إلى طريق الخلاص، فقال: "وأنت أيها الصبي، نبيَّ العلي تدعى، لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعدّ طرقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم، بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء، ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام " (لوقا 1/76-79)، فليس المقصود بالفداء والخلاص ما يذكره النصارى عن الخلاص من الدينونة بدم المسيح ، بل الفداء والتطهير
والخلاص من مكر الأعداء وتسلطهم، ويكون بالتوبة والعمل الصالح.
وعلى هذا النحو سمى التلميذان المسيحَ فادياً، فقالا: " كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل " ( لوقا 24/20-21)، أي كنا نرجو أن يكون خلاص بني إسرائيل من أعدائهم على يديه، لكنهم صلبوه وقتلوه.
ومن هذا الباب قول لوقا: " لأن ابن الإنسان قد جاء، لكي يطلب، ويخلص ما قد هلك " (لوقا 19/10) فقد أورد هذا القول في سياق توبة زكا رئيس العشارين في أريحا وتعهده بدفع نصف أمواله للمساكين وبرد المظالم إلى أهلها، فخلاص زكا الذي خلصه به المسيح ، إنما هو في دلالته على التوبة والإيمان والعمل الصالح، وهو خلاص جاء به أنبياء الله أجمعين، ولا يشير النص - من قريب أو بعيد - إلى الخلاص الذي يتحدث عنه النصارى بدم المسيح المذبوح.
عقيدة الفداء والوثنيات السابقة
وللحديث بقية إن شاء الله وقدر.