والتزاماً بالأمانة الكاملة ، ننقل هنا ما ورد في هذا الكتيب ، في شأن طبيعة المسيح عليه السلام :
يقول الأرشيدياكون وهيب عطا الله جرجس :
( إني أجرؤ على أن أقرر أن الخلاف ، كل الخلاف ، بين الكاثوليك ومن يقول بقولهم من أصحاب الطبيعتين كالبروتستانت وبعض الأرثوذكس الذين يعترفون بمجمع خلقيدونية من جانب ، وبين القائلين بالطبيعة الواحدة في السيد المسيح وممن لا يؤمنون بقانونية مجمع خلقيدونية من جانب آخر ، أقول إن الخلاف بين هؤلاء وأولئك خلاف فلسفي صرف يقوم على أساس التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به عن الاتحاد الكائن بين لاهوت السيد المسيح وناسوته .
أما نحن في الشرق ، فإننا نتخوف كل التخوف من استخدام مصطلحات فلسفية في تعريف أو تحديد معنى أو حقيقة من الحقائق اللاهوتية ، فالكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية ( وهي كنيسة الاسكندرية والكنيستان السوريانية والأرمنية ) تؤمن بلاهوت المسيح كما تؤمن أيضاً بناسوته . ولكن المسيح عندهم طبيعة واحدة مع ذلك . وقد يبدو في هذا نوع من تناقض . ولكن على الرغم مما يبدو في هذا من تناقض منطقي عقلي ، إلا أن كنيستنا لا ترى فيه شيئاً من التناقض لأنها تنظر إلى طبيعة السيد المسيح نظرة صوفية روحانية ينحل فيها كل ما يبدو أمام الفكر البشري أنه متناقض أو محال ! . هذه التجربة الصوفية أو الروحانية تعلو على كل تناقض عقلي أو فلسفي . فيها لا يسأل المسيحي لم ؟ أو كيف ؟ ، إن في ديانتنا أسراراً نؤمن بها ونقبلها بكل يقين وايمان لا شىء إلا لأنها قد أعلنت لنا من الله . ونحن نؤمن بها على الرغم من معارضتها لحواسنا ومناقضتها لعقلنا المادي ، لا لشيىء إلا لأننا أيقنا أنها من الله . وكما نؤمن بوجود الله وأنه قادر على كل شىء ، كذلك نؤمن بأسرار ديانتنا من دون أن نكون في حاجة إلى أن نسأل ، لم ؟ أو كيف ؟ ، ولا شك أن العقل الفلسفي لا يستطيع أن يقبل هذا الايمان الصوفي . ولكن العقل الفلسفي ليس في الواقع عقلاً روحياً على الحقيقة . إنه عقل لا يؤمن إلا بقدراته ومقاييسه وحدها . والديانة بالنسبة إلى العقل الفلسفي هي علم يمكن أن يوضع على قدم المساواة مع أي فرع آخر من فروع المعرفة الانسانية . والعقل الفلسفي يحاول أن يخضع الديانة لذات المنهج العلمي الذي تخضع له كل فروع المعرفة المادية . ومن هنا فقد يدخل إلى الدين مناهج التحليل والتصنيف والاستنباط والاستقراء وما إليها من أجل أن تجعله أكثر إساغة وقبولاً للعقل الفلسفي .
ويا للأسف ، أننا لا نستطيع بهذا المنهج في معالجة المسائل الدينية والحقائق اللاهوتية ، أن نفهم روح الديانة ، فعندما يتدخل العقل ، تقف التجربة الروحية الصوفية ، بل تختفي . إن لنا أن نستخدم عقولنا إلى حد معين ، وحينئذ يجب أن يقف العقل ويسلم قياده للتجربة الروحية الصوفية .
الايمان الأرثوذكسي في طبيعة السيد المسيح
إن الايمان الأرثوذكس كما نعترف به في كنيستنا هو أن ربنا يسوع المسيح كامل في لاهوته ، وكامل في ناسوته . ومع ذلك لا نجرؤ على القول إنه إله وإنسان معاً . لأن هذا التعبير ينطوي على معنى الانفصال بين اللاهوت والناسوت . وإنما نقول بالحري أنه ( الاله المتجسد ) . فاللاهوت والناسوت متحدان فيه اتحاداً تاماً في الجوهر ، وفي الاقنوم ، وفي الطبيعة . ليس هناك انفصال أو افتراق بين اللاهوت والناسوت في ربنا يسوع المسيح . بل أنه منذ اللحظة التي حل كلمة الله في رحم السيدة العذراء ، اتخذ الاقنوم الثاني من الثالوث القدوس ، من دمها ، أي من دم العذراء ، جسداً بشريا ذا نفس انسانية ناطقة عاقلة ، واتحد بالناسوت الذي أخذه من القديسة مريم العذراء . فالمولود من القديسة مريم إذن هو الاله المتجسد ، جوهر واحد ، شخص واحد ، أقنوم واحد ، طبيعة واحدة . أو قل هو طبيعة واحدة من طبيعتين ، وبعبارة أخرى يمكن أن نتكلم عن طبيعتين من قبل أن يتم الاتحاد ، أما بعد الاتحاد فهناك طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين . !!
وعلى ذلك فالاتحاد الذي تقول به الكنائس الارثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية يختلف اختلافاً جوهريا وأساسياً عن نوع الاتحاد الذي يقول به يوطيخيا .
يقول يوطيخيا إن ربنا يسوع المسيح له طبيعة واحدة ، ولكن على اساس أن ناسوت المسيح قد تلاشى تماماً في لاهوته ، اختلط به وانعدم فيه ، مثله مثل نقطة الخل عندما تختلط بالمحيط ، فيوطيخيا ينكر في الحقيقة ناسوت السيد المسيح إنكاراً تاماً .
وتقول الكنائس الارثوذكسية التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية بأن السيد المسيح ذو طبيعة واحدة تجتمع فيها جميع الصفات والخصائص الانسانية أو الناسوتية وجميع الصفات والخصائص اللاهوتية ، بدون اختلاط ، وبدون امتزاج ، وبدون تغيير . وهذا هو الايمان الذي يجهر به الكاهن في القداس القبطي عندما يتلو الاعتراف الأخير ، وهو يحمل الصينية المقدسة على يديه قائلا ً :
(( آمين ، آمين ، آمين ، أؤمن ، أؤمن ، ، وأعترف إلى النفس الأخير أن هذا هو الجسد المحيي الذي أخذه ابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ( أخذه ) من سيدتنا وملكتنا كلنا والدة الإله القديسة مريم ، وجعله واحداً مع لاهوته بغير اختلاط ، ولا امتزواج ، ولا تغيير . . . بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين )) .
وعلى ذلك فصفات اللاهوت باقية ، وصفات الناسوت باقية ، ولكن في طبيعة واحدة .
(( المسيح إذن من طبيعتين ، ولكنه ليس هو طبيعتين بعدج الاتحاد )) كما يقول البابا ديوسقورس . فلا اللاهوت امتزج بالناسوت ولا اختلط به ، ولا استحال أحدهما إلى الآخر . إنما اللاهوت والناسوت قد اتحدا . واتحادهما ليس من قبيل الاجتماع أو الاقتران أو المصاحبة ، ولكنه اتحاد بالمعنى الحقيقي لكلمة اتحاد . وإذا كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا ، فقد صارا واحداً ، ولا محل للقول بعد ذلك أن هناك طبيعتين ، وإلإ فلا يكون الاتحاد صحيحاً أو حقيقياً ! .
ولكن كيف صار هذا الاتحاد ، أو كيف يكون لطبيعة السيد المسيح الواحدة صفات اللاهوت وصفات الناسوت معاً بدون اختلاط وبدون امتزاج وبدون تغيير ، أو كيف يكون للسيد المسيح صفات الطبيعتين ولا تكون له الطبيعتان ، هذا ما لا نعرفه !!
إنه سر من الأسرار الالهية ، لا يمكن أن نفهمه أو نعيه أو نحتويه في عقولنا . من هنا سمي في الاصطلاح الكنسي بسر التجسد الالهي . فنحن نؤمن بنوع من الاتحاد يفوق كل فهم بشري وكل تصور .
قد تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة للعقل الفلسفي أو للعقل المادي ، وقد يكون فيها تناقض ، وقد يكون فيها ما يتعارض مع قوانين العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية . كل هذا قد يكون صحيحاً ، ولكننا نصدق ونؤمن بتجربة باطنية روحية صوفية عالية على كل منطق وعقل . أن هذا أمر ممكن ، ذلك لأن الله أراده ، وإذا أراد الله شيئاً فهو ممكن ، وحتى لو كان هذا غير معقول للعقل فإنه معقول للعقل الروحاني الذي لا يعرف لقدرة الله حدوداً . وهذا هو (( الايمان الذي بلا فحص )) الذي يصرخ من أجله الكاهن القبطي في القداس الالهي .
قد نتكلم أحياناً عن الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية ، لكن هذه التفرقة تفرقة ذهنية بحته لا وجود لها في الواقع بالنسبة للسيد المسيح ، الاله المتأنس . ذلك أنه لم يحدث بتاتاً أن الناسوت واللاهوت كانا منفصلين أو متفرقين في الخارج ثم اتحدا معاً بعد ذلك . إن ما حدث هو هذا :
أن الاقنوم الثاني من اللاهوت القدوس نزل وحل في أحشاء البتول مريم ، وأخذ من لحمها ودمها جسداً إنسانية ناطقه عاقلة ) [ صفحة 13 _ 18 ]
( أما بعد ، فيبدو أن الخلاف بين الكنائس الأرثوذكسية غير الخلقيدونية مجرد خلاف في التعبير ، ذلك لأن كل فريق يقر بالاتحاد بين اللاهوت والناسوت .
وإني أرى أن هذا صحيح إلى حد بعيد ، وأن الخلاف بين الفريقين هو خلاف في الحقيقة على التعبير الصحيح الذي ينبغي أن يعبر به المسيحيون عن إيمانهم بحقيقة الاتحاد القائم بين اللاهوت والناسوت .
ومع ذلك فلكنيستنا المرقسية الأرثوذكسية وللكنائس الأرثوذكسية الأخرى التي لا تقر بقانونية مجمع خلقيدونية أسباب تحدوها إلى أن تتمسك بالتعبير (( طبيعة واحدة للكلمة المتجسدة )) أو (( طبيعة واحدة من طبيعتين )) ، أو (( طبيعة واحدة لها صفات وخصائص الطبيعتين بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير )) . وهي الأسباب عينها التي نرفض من أجلها الاقرار بتعبير الغربيين (( طبيعتان متحدتان )) .
هذه الأسباب يمكن تلخيصها في النقاط الآتية :
أولاً : ليس هناك نص إنجيلي واحد يدل بوضوح على أن للسيد المسيح طبيعتين بعد الاتحاد .
على العكس تماماً فإن هذه النصوص المقدسة تساند التعبير (( طبيعة واحدة لها صفات وخواص الطبيعتين ))
ثانياً : إن التعبير القائل بطبيعتين متحدتين للسيد المسيح _ وهو التعبير الذي تقول به الكنائس الخلقيدونية _ تعبير خطر لأنه يشمل على معاني ، أو على الأقل على احتمالات بمعاني ، تتعارض مع حقائق ديانتنا المسيحية .
1 _ إنه يتضمن الثنائية في السيد المسيح . والثنائية نوع من الافتراق والانفصال بين لاهوت السيد المسيح وناسوته . وإلا فلماذا تصر الكنائس الخلقيدونية على القول بطبيعتين متحدتين ، ولا يقولون بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد .
2 _ إن تعبير الكنائس الخلقيدونية القائل (( بطبيعتين متحدتين )) يحمل التصريح بأن هناك طبيعتين للسيد المسيح كانتا مفترقتين ثم اجتمعتا معاً . وهذا يفتح السبيل للمذهب النسطوري بعينه ، وهو المذهب الذي ترفضه الكنائس الخلقيدونية رفضاً باتاً وتعتبره هرطقه فاسدة .