إبطال ابن تيمية لدعوى النصارى للتوحيد مع قولهم بالتثليث
بالرغم من أن النصارى يقولون بالتثليث ، إلا أنهم يدعون التوحيد وأن هذا الثالوث يؤلف إلهاً واحدا . وينقدهم ابن تيمية من خلال نص عقيدة إيمانهم ، ويثبت أنهم مثلثون لا موحدون ، وأنهم يثبتون ثلاثة آلهة منفصلة تنطبق على كل واحد منها صفة الألوهية . ويثبت أن دعواهم لتوحيد دعوى باطلة ، وأنهم متناقضون في ذلك تناقضا بينا .
فالنصارى يقولون : إن الثلاثة الأب والابن وروح القدس أسماء ، وهي إله واحد ، ورب واحد ، وخالق واحد ، ومسمى واحد ، لم يزل ولا يزال حياً ناطقاً . أي الذات والنطق والحياة .
فالذات عندهم : الأب ، الذي هو ابتداء الاثنين ، والنطق : الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل ، والحياة : هـي الروح القدس .
وقد ناقشهم ابن تيمية في دعواهم هذه ، ورد عليهم . فقال :
إن أسماء الله تعالى متعددة كثيرة ، فإنه ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ، يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ) .. إلى آخر الآيات الكثيرة في هذا الشأن .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) .
وإذا كانت أسماء الله كثيرة ومتعددة ، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل . وأي شئ زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء دون غيرها فهو باطل .
أما قولهم : الأب الذي هو ابتداء الاثنين ، والابن : النطق ، الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل فكلام باطل . بل هو من أعظم الكفر وأشده استحالة ، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخراً . لم يزل ولا يزال حياً عالماً قادرا ، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حياً ولا عالما بعد أن لم يكن عالما ..
أما تسمية حياة الله ( بالروح القدس ) ، فهو أمر لم ينطق به شئ من كتب الله المنزلة ، فإطلاق روح القدس على حياة الله إنما هو من تبديلهم وتحريفهم ...
ثم يقول : إن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة ( قسطنطين) ، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم ، تناقض ما تدعونه من أنكم تؤمنون بإله واحد ، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه . وهذان أمران معروفان في دينكم :
- تناقضكم في ادعائكم أن الثلاثة واحد .
- وإظهاركم في المناظر خلاف ما تقولونه من أصل إيمانكم .
فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى ، يقولون فيها :
( نؤمن بإله واحد ، أب ضابط للكل ، خالق السموات والأرض ، كل ما يرى وما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد ، المولود من الأب قبل كل الدهور . نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق مساو للأب والابن في الجوهر وبروح القدس ، الرب المحيي ، المنبثق من الأب ، الذي هو من الأب والابن مسجود له ، وسجد ناطق في الأنبياء ... )
فهذا تصريح بالثلاثة أرباب ، وأن الابن إله حق من إله حق ، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب ، وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق ، تقولون : إن ذلك إله واحد ، وهذا تصريح بتعدد الآلهة ، مع القول بإله واحد . ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر ، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة ، لكن كان يكون كلامكم أعظم كفرا . فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب خالق ما يرى وما لا يرى ، وهذا من أعظم كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم ، فإنكم تقولون : المسيح هو الله ، وتقولون : هو ابن الله .. وهذا أيضا من تناقضكم ، فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها ، فإن الأب هو الذات ليست هي الصفة .
والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم : وبرب واحد يسوع المسيح عطف الصفة ، وأن هذا هو الأب .. والعطف لتغاير الصفة ، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم ، ويكونون قد جعلوه إلهاً من نفسه ، فقالوا : برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد ، المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور ، إله حق من إله حق ، ومن جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، فصرحوا بأنه رب ، وأنه إله حق ، من إله حق ، وصرحوا بإله ثاني مع الإله الأول . وقالوا مع ذلك إنه مولود من الأب قبل كل الدهور ، وأنه مولود غير مخلوق ، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت ، فإن الناسوت مخلوق .
ثم قالوا : مساو الأب في الجوهر ، فاقتضى هذا أن لا يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا ، وإنه مساو الأب في الجوهر . والمساوي ليس هو المساوي . وهذا يقتضي إثبات جوهر ثاني مساو الجوهر الأول ، وهو صريح بإثبات الهين ، وتقولون مع ذلك : إنه إله واحد ، جوهر واحد ..
ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الأب مسجود له ممجد ، ناطق في الأنبياء ، فإن كان المنبثق ربا حيا ، فهذا إثبات إله ثالث ، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة ، وفي كل منهما من الكفر والتناقض مالا يخفي . ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له ، والمسجود له هو الإله المعبود ، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض . ثم جعلتموه ناطقا في الأنبياء ، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء ، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت ، وأنه إله تام ، وإنسان تام ، كما قلتم في المسيح ، إذ لا فرق بين حلول الكلمة ، وحلول روح القدس ، فكلاهما أقنوم ، وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى ، وحلول الصفة دون الذات ، فيلزم الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالاً في كل نبي ، ويكون كل نبي هو رب العالمين ، ويقال مع ذلك هو ابنه ، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى ، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه .
ويتتبع ابن تيمية تبرير النصارى للتثليث حيث يذكر أنهم قالوا :
أنه لا يلزمنا إذا قلنا : " أب وابن وروح قدس " عبادة ثلاثة آلهة ، بل إله واحد ، كما لا يلزمن إذا قلنا : الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناس ، بل إنسان واحد ، ولا إذا قلنا : لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران ، ولا إذا قلنا : قرص الشمس ، وضوء الشمس ، وشعاع الشمس ، ثلاثة شموس " . أي لا يلزمهم التثليث في كل ما مر ، بل الإنسان هو الإنسان بنطقه وروحه ، والنار هي النار بضوئها وحرارتها ، وقرص الشمس هو قرص الشمس بضوئه وشعاعه . لكن شيخ الإسلام رد عليهم بقوله :
إنكم صرحتم بتعدد الآلهة الأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم . وغير ذلك من كلامكم ، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به ، بل أنتم تصرحون بذلك كما تقدم من قولكم : نؤمن بالله واحد ضابط الكل خالق ما يرى وما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد ، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه ، مولود غير مخلوق ، مساو الأب في الجوهر وبروح القدس الرب المحيي ، المنبثق من الأب ، الذي معه الأب مسجود له وممجد .
أما تمثيلكم الثالوث بالإنسان ، ونطقه ، وروحه ، فهو تمثيل باطل ، فإن أردتم بالروح حياته ، فليس هذا هو مفهوم الروح ، وأن أردتم الروح التي تفارق بدنه بالموت ، وتسمى النفس الناطقة ، فهذه جوهر قائم بنفسه ، ليست عرضاً من أعراضه ، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه ، مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان ويكون الرب – سبحانه وتعالى – مركبا من بدن وروح كالإنسان وليس هذا قول أهل الملل ، ولا المسلمين ولا اليهود ، ولا النصارى ، فتبين أن تمثيلكم هذا باطل .
ثم إن حر النار وضوءها القائم بها ، ليس ناراً من نار ، ولا جوهر من جوهر ، ولا هو مساو النار والشمس في الجوهر ، وكذلك نطق الإنسان ليس هو إنسانا من إنسان ، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر ، وكذلك الشمس وضوئها القائم بها ، وشعاعها القائم بها ليس شمسا ، ولا جوهرا قائما بنفسه . وأنتم قلتم : إله حق من إله حق وقلتم في روح القدس : إنه رب ممجد ، مسجود له . فأثبتم ثلاثة أرباب .
وهكذا يبين ابن تيمية أن النصارى قد ضلوا في عقيدتهم بالتثليث ضلالا بعد ضلال ، ضلوا أولاً ، حيث جعلوا مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس صفة الرب . ثم ضلوا ثانياً ، حيث جعلوا الصفة خالقا وربا . ثم ضلوا ثالثاً ، حيث جعلوا الصفة تتحد ببشر . وهو عيسى ، ويسمى المسيح ، ويكون هو الخالق رب العالمين . فضلوا في التثليث ضلالا مثلثا ، حيث أثبتوا ثلاث صفات دون غيرها ، وجعلوها جواهر وأربابا ، ثم قالوا : هي إله واحد .
وهكذا يبطل ابن تيمية استدلالات النصارى على عقيدتهم بالتثليث داحضا ما فيها من الأباطيل ، وسوء الفهم ، ومبينا أنه لا حجة لهم في كل ما احتجوا به ، بل عامة ما يحتجون به من نصوص الأنبياء ، ومن المعقول هو نفسه حجة عليهم ، ويظهر منه فساد قولهم . كما نقلنا عنه آنفا .