شبهةالآب فيَّ و أنا في الآب ?
شبهة
" الآب فيَّ و أنا في الآب " [11]
الإجابة عن هذه الشبهة:
الاستدلال بأمثال هذه العبارات على إلـهية المسيح ضعيف و باطل أيضا من عدة وجوه:
أولا: هذه النصوص واجبة التأويل عند جمهور أهل التثليث لكونهم جميعا لا يؤمنون بظاهرها الحرفي الذي يفيد حلول الله الآب في عيسى الناصري البشر، لأن جمهور المسيحيين يرون أن الله الابن ـ و ليس الآب ـ هوالذي تجسد في المسيح عليه السلام، و لذلك فهذا النص يؤولونه بأن المقصود بعبارة: " الآب فيَّ و أنا في الآب " اتحاد الآب و الابن في الجوهر أي الاتحاد الباطني، و إن كانا شخصيتين منفصلتين.
ثم يصححون حلول الله الابن في عيسى البشر الذي كان الناس يرونه ـ رغم أن الله تعالى لا يرى و لا تدركه الأبصار باتفاق المسيحيين كلهم ـ بأن المسيح كان إنسانا كاملا و إلـها كاملا بنفس الوقت! و لذلك صح هذا الحلول باعتبار لاهوته، و لكننا سبق و أن بينا بالتفصيل أن هذا باطل و مخالف لصريح العقل و بديهيات المنطق و الوجدان [12] .
إذن لا مجال للأخذ بظاهر هذا النص و بمعناه الحرفي بل لا بد من المصير إلى معنى مجازي لهذا الاتحاد المذكور، و سيأتيك فيما يلي توضيح هذا المعنى المجازي استنادا إلى نصوص متشابهة من نفس الإنجيل و رسائل القديسين.
ثانيا: في نفس الإصحاح من إنجيل يوحنا الذي جاءت فيه تلك العبارة، جاء في الآية 20 منه قول المسيح عليه السلام أيضا: " في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي و أنتم فيَّ و أنا فيكم " يوحنا: 14 / 20.
كذلك مر معنا في الشبهة الماضية قول المسيح عليه السلام في دعائه الله تعالى لأجل التلاميذ:
" ليكون الجميع واحدا كما أنك أيها الآب فِـيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني... (إلى قوله) أنا فيهم و أنت فـيَّ ليكونوا مكمِّـلين إلى واحد.." إنجيل يوحنا: 17 / 21 ـ 23.
فالمسيح عليه السلام لم يقل أن الله تعالى فيه و هو في الله فقط، بل كذلك قال أن الحواريين أيضا هم في المسيح و المسيح فيهم، و دعا أيضا الله تعالى أن يكون الحواريون في الله و في المسيح أيضا فقال: ليكونوا هم أيضا فينا!
فإذا كانت الكينونة " في الله " تعني الإلـهية، فإذن المسيح يدعو الله تعالى أن يصير تلاميذه آلهة! و هذا لا يقول به مسيحي.
ثم لما كان ـ حسب تلك العبارات ـ الآب في المسيح و المسيح في التلاميذ، إذن، الآب في التلاميذ أيضا لأن الحالَّ في حالٍٍّ في محلٍٍّ، حالٌّ أيضا في ذلك المحلِّ، فإذا كان ثبات الله تعالى في المسيح يدل على ألوهيته، فإن ثبات الله تعالى في التلاميذ يعني ألوهيتهم أيضا!! و هذا ما لا يعتقده مسيحي، إذن هذا الاتحاد في المحل و هذه الكينونة أو الثبات في الله، ليست مرادة بمعناها الحرفي، بل المراد منها معنى مجازي، فما هو؟ إن الحواريين أنفسهم و كتَّاب الرسائل الملحقة بالأناجيل في العهد الجديد حلوا لنا هذا الإشكال بكل وضوح، و هذا ما نراه في النقطة التالية:
ثالثـا: لقد جاءت مثل هذه التعبيرات مرات عديدة في رسائل العهد الجديد المكملة للأناجيل، و منها يظهر مرادهم من حلول الله تعالى أو ثباته في شخص، و فيما يلي بعض هذه النصوص التي تظهر إرادة هذا المعنى المجازي من تعبير الحلول و الثبات في الله:
(1) جاء في رسالة يوحنا الأولى (4/ 12ـ 15):
" الله لم ينظره أحد قط، إن أحب بعضنا بعضا فالله يثبت فينا و محبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه و هو فينا أننا قد أعطانا من روحه. و نحن قد نظرنا و نشهد أن الله قد أرسل الابن مخلِّصا للعالم. من اعترف أن يسوع هو ابن الله فا لله يثبت فيه و هو في الله ".
(2) و جاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس (6 / 16):
" فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: أني سأسكن فيهم و أسير بينهم و أكون لهم إلـها و هم يكونون لي شعبا "
قلت: فمن هذه النصوص يتضح جليَّاً أن مرادهم من تعبير ثبات الله تعالى في المؤمنين المطيعين، هو أنه تعالى معهم و مؤيد لهم و محب و ناصر لهم و أنه تعالى جعل إرادتهم مثل إرادته و مشيئتهم كمشيئته، إذ لو كان ثبات الشخص في الله أو ثبات الله فيه مشعرا بالاتحاد و مثبتا للألوهية للزم أن يكون الحواريون، بل جميع أهل كورنثوس و جميع الصالحين آلهة!!، فكذلك تماما ثبات الله تعالى في المسيح و ثبات المسيح فيه معناه أن ما يقوله المسيح و يفعله هو قول الله تعالى و فعله و مطابق لمشيئته و منطلق من تأييده و محبته و رضوانه، فإرادتهما متحدة و هدفهما واحد.