يهوذا الإسخريوطي:
قرر يهوذا الإسخريوطي، أحد الحواريين الاثني عشر، أن يسلم عيسى إلى رؤساء الكهنة اليهود، فذهب إليهم وقال لهم: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة". (متى 25/15).
يهوذا هذا أحد الحواريين. والحواريون هم كبار التلاميذ، هم التلاميذ المقربون لعيسى. خان يهوذا وقرر أن يبيع نفسه لأعداء عيسى مقابل ثلاثين من الفضة!! والمبلغ هذا غير مذكور في (لوقا 22/1-6). وقصة تشاور يهوذا مع رؤساء الكهنة غير موجودة على الإطلاق في إنجيل يوحنا.
يهوذا هو الذي تآمر لتسليم عيسى إلى الكهنة الذين خططوا لقتل عيسى صلباً. ويهوذا يهودي الكهنة يهود. وهذا يدحض محاولة الكنيسة تبرئة اليهود من صلب عيسى (لأنه بمقياس الإنجيل، اليهود هم الذين صلبوه). فالواشي يهودي والمخطط يهودي والمنفذ يهودي (هذا ما يقوله الإنجيل)، فلا مجال لتبرئتهم من صلب المسيح (بالمقاييس الإنجيلية). كما أن الصلب فرض على المسيح ولم يسع هو إليه، وهذا يدحض الزعم بأن الصلب للفداء والتكفير، لأن المسيح لم يسع إلى صلب نفسه، بل سيق إلى الصلب، كما تنص الأناجيل.
من سيخـون؟
1- في العشاء الأخير، قال عيسى: "الذي يغمس يده معي في الصفحة هو يسلمني.... فأجابه يهوذا مسلِّمه وقال هل أنا هو يا سيدي. قال له أنت قلت". (متى 26/23-25).
2- وفي مرقس، في الموقف ذاته عندما أجاب عيسى عن الذي سيخونه قال: "هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة". (مرقس 14/20). لم يحدد عيسى الشخص الذي سيسلمه.
3- وفي لوقا، قال عيسى: "هو ذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة". (لوقا 22/21).
4- وفي يوحنا، قال عيسى: "هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي". (يوحنا 13/26).
وهكذا نلاحظ في هذه النصوص ما يلي:
أ- متّى ولوقا لم يحددا اسم الخائن الذي سيسلم عيسى. ولكن في مرقس ويوحنا حدد المسيح اسم الخائن.
ب- في يوحنا، المسيح يغمس اللقمة ويعطي يهوذا. في متى، يهوذا هو الذي يغمس اللقمة.
ج- إذا كانت الأناجيل لم تتفق بشأن حادثة رئيسية من هذا النوع، فعلينا أن نتصور مدى اختلافاتها في سائر الأحداث.
ويل لـه:
بعد أن تحدث عيسى عن أن أحد حوارييه سيخونه، قال: "إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ويل لذلك الرجل الذي به يُسَلَّم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد". (متى 26/24).
هنا نلاحظ ما يلي:
1- عيسى سمى نفسه "ابن الإنسان" وليس "ابن الله".
2- لم يذكر إنجيل يوحنا هذا النص إطلاقاً.
3- لم يذكر إنجيل لوقا الجملة الثالثة من هذا النص.
4- لو كان الصلب هو ما سعى إليه المسيح لفرح المسيح بكل خطوة تؤدي به إلى الصليب. ولكنه حذر الواشي وأنذره وتوعده بالعذاب الشديد. هذا يدل على أن المسيح لم يسع إلى الصلب ليفتدي أحداً، بل كان هدفاً لمؤامرة ضده. وهذا يدحض عقيدة النصارى بالصلب للفداء التي هي جوهر النصرانية الحالية.
5- قال عيسى: "ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه". (متى 26/24). لم يحدد عيسى هنا أنه سيقتل أو يصلب، بل قال إنه ماض كما كتب عنه. وهذا يتماشى مع التبليغ القرآني بأن الله أنجاه ورفعه.
العشاء الرباني:
في العشاء الأخير، روى متّى أن عيسى كسَّر خبزاً وأعطى تلاميذه وقال: "خذوا كلوا. هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً أشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد يُسْفَكُ من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا". (متى 26/26-28).
وهذا ما تدعوه الكنيسة "العشاء الرباني".
نلاحظ هنا ما يلي:
1- كيف يكون الخبز جسد المسيح ؟! وكيف يكون الخمر دمه ؟! أليس هذا كلاماً غريباً وغير مفهوم ؟! الجسد هو الجسد والدم هو الدم والخبز هو الخبز والخمر هو الخمر. أربعة أشياء مختلفة فكيف صار الخبز جسداً والخمر دماً؟!!
2- في النص عيسى "شكر". شكر من ؟ شكر الله. وهذا يدحض بألوهية المسيح، لأن الله لا يشكر الله.
3- ما علاقة سفك الدم بغفران الخطايا ؟! واحد يُسْفَك دمه واحد تغفر خطيئته: ظلم ما بعده ظلم!!! آدم أكل التفاحة وعيسى دفع الثمن!! إن الزعم بصلب المسيح لا ينطوي على ظلم شديد لا يصح أن ينسب إلى الله. كما أن خطايا المرء تغفر بتوبته هو شخصياً وبأعماله الصالحة، لا عن طريق شنق رجل آخر!!!
4- عبارة "لمغفرة الخطايا" غير موجودة في مرقس14/22-26ولا في لوقا 22/14-19.
5- هذه الحادثة كلها "العشاء الرباني" غير مذكورة في يوحنا. كيف هذا والعشاء الرباني من أهم معتقدات وطقوس الكنيسة؟!! ويوحنا كاتب الإنجيل من الحواريين الحاضرين لذلك العشاء، فكيف لم يذكره؟!!
6- هذا العشاء (الخبز والخمر) حدث بعد حديث عيسى عن الخائن الذي سيسلمه في متى 26 و مرقس 14 . ولكنه حدث قبله في لوقا 22 . ولم يحدث إطلاقاً في يوحنا 12 .
7- غب متّى، قال عيسى لتلاميذه اشربوا من الكأس، ولكن لم يذكر أنهم شربوا. في مرقس، شربوا. في لوقا، لم يطلب منهم أن يشربوا ولا شربوا. في يوحنا، لا ذكر لأي شيء.
8- في متّى، الخبز ثم الكأس. وكذلك في مرقس. ولكن في لوقا، الكأس ثم الخبز. وفي يوحنا، لا كأس ولا خبز.
هذه أمثلة فقط من بعض الاختلافات بين الأناجيل في حادثة واحدة. وأغرب ملاحظة هي عدم ذكر يوحنا للحادثة إطلاقاً، مع العلم أن هذا "العشاء الرباني" كما تدعوه الكنيسة من أركان النصرانية. فإذا كان العشاء من أركانها، فكيف نَسِيَهُ إنجيل يوحنا؟!!!!
بعد العشاء الأخير:
بعد العشاء الأخير، قال عيسى لتلاميذه: "اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي هناك.... وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت... وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فتلعبر عني هذه الكأس... فمضى أيضاً ثانية وصلى... وصلى ثالثة". (متى 26/36-44).
نلاحظ هنا ما يلي:
1- عيسى صلى ثلاث مرات. لمن كان يصلي ؟ طبعاً لله. لو كان عيسى آلهاً فهل يصلي الإله للإله ؟!!! هذا يؤكد بشرية عيسى وينفي عنه الألوهية المزعومة.
2- كان عيسى حزينة جداًَ مكتئباً. لماذا ؟ لأنه أحسن أن أحد حوارييه سيخونه ويسلمه لأعدائه. إذاً لم يكن عيسى مسروراً بأنه سيصلب!! إذاً لم يقدِّم نفسه طواعية للصلب من أجل الفداء كما يزعمون. لو كان فرحاً بالصلب مقبلاً عليه لما حزن ولم اكتأب!! وهذا ينفي فكرة الصلب للفداء.
3- كان وهو يصلي يدعو الله أن تعبر عنه تلك الكأس، أي أن يصرف الله عنه البلاء. وهذا يؤكد أنه لم يرد تقديم نفسه للصلب كما يزعمون.
4- رواية مرقس تشبه رواية متى في هذه الحادثة وتشبه رواية لوقا إلى حد ما. ولكنها تختلف اختلافاً كبيراً عن رواية (يوحنا 14/17) حيث نجد خطبة لعيسى عبر ست صفحات (حوالي 140 سطراً) مقابل بضعة سطور في الأناجيل الأخرى.
المداهمــة:
أخيراً جاء يهوذا الإسخريوطي ومعه جمع كثير بسيوف وعصي لإلقاء القبض على عيسى. وبعد أن قَيَّل يسوعَ (حسب اتفاقه مع الجنود) "قال له يسوع: يا صاحب لماذا جئتَ". (متى 26/51). فأمسكه الجنود (حسب رواية متّى)، فاستل أحد الحواريين سيفه وقطع إذن أحد العبيد. فقال عيسى لتلميذه: "رد سيفك إلى مكانك. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون". (متى 26/52). وقال إنه يستطيع أن يطلب إلى الله أن يقدم له أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة (متى 26/53). وأخيراً "تركه التلاميذ كلهم وهربوا". (متى 26/56).
هنا نلاحظ ما يلي:
1- استفسار عيسى من يهوذا عن سبب قدومه "لماذا جئت، غير موجود في الأناجيل الأخرى. انفرد متّى بذكر هذا.
2- الذي استلَّ سيفه مجهول في متّى ولوقا ومرقس. ولكن يوحنا حدده بأنه بطرس (يوحنا 18/10).
3- طلبُ عيسى من تلميذه أن يرد سيفه مذكور في متّى ويوحنا (18/11) وغير مذكور في لوقا ومرقس.
4- استطاعة عيسى أن يطلب مساعدة الله مذكورة في متّى فقط.
5- استأذن تلاميذُه أن يضربوا بالسيف (لوقا 22/49). هذا الاستئذان مقصورة على لوقا فقط.
6- عتاب عيسى ليهوذا "أبقليه تسلِّم ابن الإنسان". (لوقا 22/48). هذا العتاب مقصور على لوقا فقط، إذ لم تذكره الأناجيل الأخرى.
7- "سقطوا (أي الجنود) على الأرض". (يوحنا 18/6). هذا السقوط مقتصر على يوحنا فقط.
8- "ولمس أذنه وأبرأها". (لوقا 22/51)، أي عيسى لمس أذن العبد التي قطعها أحد تلاميذه. هذا الإبراء مقتصر على لوقا فقط.
9- قول عيسى للجنود "كأنه على لص خرجتم..." (متى 26/55) كرره مرقس، ولكن لم يذكره لوقا ولا يوحنا.
مما سبق يتبين لنا أن الأناجيل الأربعة لم تتفق على أي أمر من الأمور المتعلقة بالمداهمة، مما يدل على حالة الفوضى التي تعاني منها الأناجيل على يد الرواة والكتاب والمترجمين وسواهم. كما أنه من المعروف أن الأناجيل كتبت بعد رفع عيسى بنحو ثلاثين أو سبعين عاماً. وعلينا أن نتصور ماذا يحدث لقصة تدوَّن بعد حدوثها بثلاثين سنة. إن الرواة لا يتفقون إذا رووا ما يرونه الآن. فكيف سيتفقون بعد ثلاثين أو سبعين سنة من مشاهدتهم أو سماعهم ؟!! تضاف إلى ذلك عوامل النسيان والتحريف المقصود وأخطاء التدوين وأخطاء الترجمة.
وأغرب ما في القصة أن جميع التلاميذ هربوا كما ينص (متى 26/56). التلاميذ "كلهم"!! ما هؤلاء التلاميذ الذين لا يدافعون عن سيدهم ومعلمهم!!!! إنهم الحواريون، صفوة التلاميذ، ومع ذلك لم يتحركوا للدفاع عن المسيح. وأشك في "سيف بطرس الذي قطع أذن العبد" لأنه لو فعل ذلك لألقوا القبض عليه في حينه.
ولقد دلت صلاة عيسى بعد العشاء الأخير أنه كان في ضيق وأنه طلب العون من الله. وهاهو في متى 26/53 يقول إنه يستطيع أن يطلب من الله جيوشاً من الملائكة. إن النتيجة المنطقية هنا وعيسى في هذه الحالة أنه طلب العون فعلاً من الله وأنه طلب من الله أن يعينه ويغيثه كيفما يشاء ويقدِّر. وما يتصوره المرء بعد ذلك أن الله فعلاً استجاب لسائله وحبيبه عيسى وأنه أنقذه من مخالب أعدائه بأية طريقة شاء. أيهما أقرب إلى التصديق: الله يترك رسوله يهان ويضرب ويجلد ويصلب أم الله يستجيب لدعاء رسوله فينقذه من براثن أعدائه وكيدهم ؟ أيهما أكرم لعيسى: إهانته وصلبه أم إنقاذ الله له ورفعه ؟ أيهما أليق بجلال الله وقدرته: تركه لعيسى يموت تلك الميتة أم رفعه له ؟
ثم إذا كان التلاميذ كلهم قد هربوا، وإذا كان الحواريون أو التلاميذ أو تلاميذ التلاميذ هم الذين كتبوا الأناجيل، وإذا كان هؤلاء الكتاب لم يحضروا ما حدث بعد إلقاء القبض على عيسى (كما تقر الأناجيل بأنهم هربوا جميعاً)، فكيف عرف التلاميذ ما حدث بعد القبض على عيسى ؟! الحواريون والتلاميذ هربوا بعد القبض عليه. إذاً ما رووه في أناجيلهم عما حدث بعد القبض عليه ليس رواية من الدرجة الأولى، أي ليست رواية شاهد، بل رواية سامع. وهناك فرق كبير بين موثوقية الرواية المباشرة وموثوقية الرواية من الدرجة الثانية أو الثالثة. وهذا يلقى ظلالاً قوية من الشك على كل الروايات التي حدثت لحظة القبض المزعومة وما بعدها.