تناقضات الأناجيل
{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (سورة النساء، آية : 82 ).تعطي الآية معياراً صحيحاً للتحقق من صحة نسبة أي كتاب إلى الله عز وجل، فالبشر من طبعهم الخطأ والنسيان، والتخليط بعد تقادم الأيام، ولذا تأتي كتاباتهم منسجمة مع هذه الطبائع البشرية.
ولو طبقنا هذا المعيار على الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، فإنا سنرى آثار هذه الطبائع تتجلى في أخطاء الإنجيليين وتخالفهم وتناقضهم في الأحداث والأحكام التي يوردونها في كتاباتهم.
ووجود التناقض يدحض دعوى إلهامية هذه الكتب، واعتبارها جزء من كلمة الله التي أوحاها إلى بعض تلاميذ المسيح.
ويعترف النصارى ضمناً بصحة هذا المعيار، لذا نرى شراح العهد الجديد يعمدون إلى تفسير التناقضات والصعوبات التي تواجه النص، ويتأولونها بعيداً عن الحقيقة التي ينطق بها النص، ليقينهم بأن بقاء التناقض يعني بشرية الكتب ونفي إلهاميتها وقداستها.
ولما كان النصارى يؤمنون بالأناجيل الأربعة، وهي جميعاً تتحدث عن قصة المسيح كان لابد أن تتشابه هذه القصص، في معانيها ومضامينها أو - على الأقل - أن تتكامل لتكون رواية متكاملة عن المسيح.
لكن عند المقارنة بين المعطيات الإنجيلية في الحدث الواحد نرى تناقضاً يحيل العقل الجمع فيه على وجه من الوجوه، ويتكرر هذا التعارض والتناقض في كثير من الرواية الإنجيلية.
وأمام هذه التناقضات كان لابد للنصارى أن يختاروا بعض هذه الأناجيل أو بعض رواياتهم فيجعلونها مقدسة، ويرفضون ما وراء ذلك، أو أن يعترفوا ببشرية الأناجيل الأربعة كتابة ووضعاً، فيمكن فهم التناقض حينذاك، وأما الإصرار على أن هذا المتناقض كله من الله، فهذا ما نرفضه نحن وهم على سواء. فهل تتناقض الأناجيل فعلاً ؟
أمثلة التناقض في العهد الجديد
ضرب المحققون عشرات الأمثلة لتناقض الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، منها ما يتعلق ببعض الأحداث التي تقصها الأناجيل، ومنها ما يجعل المسيح متناقضاً مع نفسه زمنها على الخصوص تلك التناقضات المتعلقة بروايات حادثة الصلب، ومنها تلك التي خالف فيها الإنجيليون ما في العهد القديم، فبدلوا في رواياته أو أخطؤوا، فحصل منهم التناقض:
أولاً: تناقضات الإنجيليين في رواياتهم بعض الأحداث
نسب المسيح
لعل أهم وأصرح تناقضات العهد الجديد تناقض متى ولوقا في نسب يوسف النجار، فقد اختلفا اختلافاً لا يمكن الجمع فيه، كما تناقض لوقا ومتى مع ما جاء في سفر الأيام الأول، وهو يتحدث عن بعض ملوك إسرائيل الذين جعلهم متى من أجداد المسيح.
يقول متى: " كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم. إبراهيم ولد إسحق. وإسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد أرام، وأرام ولد عمينا داب. وعمينا داب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون، وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى، ويس ولد داود الملك.
وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا، وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد أبيا. وأبيا ولد آسا. وآسا ولد يهوشافاط. ويهوشافاط ولد يورام. ويورام ولد عزيا. وعزيا ولد يوثام. ويوثام ولد أحاز. وأحاز ولد حزقيا. وحزقيا ولد منسي. ومنسي ولد آمون. وآمون ولد يوشيا. ويوشيا ولد يكنيا وإخوانه عند سبي بابل.
وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتئيل. وشألتئيل ولد زربابل. وزربابل ولد أبيهود. وأبيهود ولد ألياقيم. وألياقيم ولد عازور. وعازور ولد صادوق. وصادوق ولد أخيم. وأخيم ولد أليود. وأليود ولد أليعازر، وأليعازر ولد متان. ومتان ولد يعقوب. ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع، الذي يدعى المسيح.
جميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً. ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً " ( متى 1/1 - 17 ).
لكن لوقا يورد نسباً آخر للمسيح يختلف تمام الاختلاف عما جاء في متى يقول لوقا :" ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو - على ما كان يظن - ابن يوسف بن هالي، بن منثات بن لاوي بن ملكي بن ينا بن يوسف بن متاثيا ابن عاموص بن ناحون بن حسلي بن نجاي، بن ماث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا، بن يوحنا بن ريسا.
ابن زربابل بن شألتئيل بن نيري، بن ملكي بن أدى بن قصم بن ألمودام بن عير، بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي. بن شمعون بن يوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود.
ابن يسى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناداب بن أرام بن حصورن بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
ابن تارح بن ناحور، بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن فينان بن أرفكشاد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم ابن الله " ( لوقا 3/23 - 38 ).
توقف المحققون ملياً عند التناقض في نسب المسيح، وقد استوقفتهم ملاحظات منها :
- أن متى ولوقا اتفقا في ابتداء النسب بيوسف النجار، ثم افترقا ليلتقيا من جديد بزربابل بن شألتئيل، حيث جعله متى الجد العاشر ليوسف النجار، فيما جعله لوقا الجد التاسع عشر ليوسف.
ثم اختلف الإنجيليان من جديد اختلافاً كبيراً، فقد جعل متى المسيح من ذرية ملوك بني إسرائيل سليمان ثم رحبعام ثم أبيا ثم آسا ثم يهوشافاط....، بينما يجعله لوقا من نسل ناثان بن داود، وليس في أبنائه من ملك على بني اسرائيل.
يهوشافاط ... يهوشافاط ... ألياقيم ... أخيم ... يوسف
يورام ... يورام ... يونان ... أليود ... شمعى
... ... أخزيا ... يوسف ... اليعازر ... متاثيا
... ... يواش ... يهوذا ... متان ... مآث
... ... أمصيا ... شمعون ... يعقوب ... نجاى
عزيا ... عزريا ... لاوى ... يوسف ... حسلى
يوثام ... يوثام ... متثات ... ناحوم
أحاز ... أحاز ... بوريم ... عاموص
حزقيال ... حزقيال ... أليعازر ... مُتاثيا
منسي ... منسي ... يوسى ... يوسف
آمون ... آمون ... عير ... ينا
يوشيا ... يوشيا ... ألمودام ... ملكى
... ... يهوياقيم ... قصم ... لاوى
يكنيا ... يكنيا ... أدى ... متثات
شالتئيل ... ... ... ملكى ... هالى
... ... فدايا ... نيرى ... يوسف
والسؤال كيف يجمع علماء الكتاب المقدس بين تناقضات أنساب المسيح ؟
قال بعضهم: " لا يراد من هذا شجرة نسب كامل ... أسماء قد سقطت من بعض الإنجيليين، وهذا للتوضيح الموصل إلى الرغبة بإثبات سلالة مؤسسة على الصحة التاريخية في خطوطها العريضة أو عناصرها الأساسية ".
ولكن بوكاي لا يرى هذا التبرير مقبولاً، لأن النصوص لا تسمح بمثل هذا الافتراض، إذ أن نص التوراة الذي اعتمد عليه الإنجيليون يقول : فلان في عمر كذا أنجب كذا، ثم عاش كذا من السنين، وهكذا فليس ثمة انقطاع.
ويقول صاحب كتاب " شمس البر ": "معرفتنا بطريقة تأليف جداول النسب في تلك الأيام قاصرة جداً "، ويعلق بوكاي: " لاشك أن نسب المسيح في الأناجيل قد دفع المعلقين المسيحيين إلى بهلوانيات جدلية متميزة صارخة تكافئ الوهم والهوى عند كل من لوقا ومتى ". (1)
وإذا كانت الأناجيل تختلف بأمر بمثل هذه الأهمية والوضوح، فكيف لنا أن نثق بما وراء ذلك من أخبار ووقائع وتفصيلات تعرضها عن حياة المسيح وغيره.
من الذي طلب الملكوت، الأم أم ابناها؟
ومن تناقضات الأناجيل أيضاً ما تناقض فيه متى مع مرقس، فقد ذكر متى أنه " تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها وسجدت، وطلبت منه شيئاً، وقالت له : قل : أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك، فأجابها يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان... " ( متى 20/20 - 23 ).
وفي مرقس تذكر القصة نفسها وبنفس حيثياتها، لكن الذي طلب الملكوت هما الابنان، وليس أمهما، يقول مرقس: " وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي قائلين: يا معلّم نريد أن تفعل لنا كل ما طلبنا ... فقالا له: أعطنا أن نجلس واحد عن يمينك، والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان...." ( مرقس 10/35 - 38 ).
يقول جون فنتون في تفسيره لإنجيل متى : لقد أحدث متى بعضاً من التغيرات والحذف لما في إنجيل مرقس، وأهم ما في ذلك، أنه بينما في إنجيل مرقس نجد أن التلميذين نفسيهما يطلبان من يسوع، إذ بأمهما هي التي تطلب منه حسب رواية متى.
هل أوصى المسيح تلاميذه بأخذ العصا أم أوصاهم بتركها؟
ومن التناقضات أن مرقس يذكر وصية المسيح لتلاميذه بعد أن أعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة فقال : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً ولا نحاساً في المنطقة، بل يكونوا مشدودين بنعال، ولا يلبسوا ثوبين " ( مرقس 6/8 - 9 ).
لكن الوصية في لوقا تتفق مع مرقس في أمور وتختلف في أخرى فقد جاء فيها: " وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى، وقال لهم: لا تحملوا شيئاً للطريق، لا عصا ولا مزوداً ولا خبزاً، ولا فضة ولا يكون للواحد ثوبان " ( لوقا 9/2-3). فقد تناقضا في وصية المسيح بخصوص العصا.
كما ناقض إنجيلُ متى القديسَ مرقس في حمل العصا والأحذية، إذ نسب إلى المسيح قوله: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضة، ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين، ولا أحذية ولا عصا" (متى 10/9-10)، فقد نص متى على منعهم من اقتناء (أي تملك) الأحذية والعصا، مخالفاً ما جاء في إنجيل مرقس.
هل سمعوا صوت الله أم أن الله لا يسمع صوته
يتحدث يوحنا عن الله الآب فيقول: "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا رأيتم هيئته" (يوحنا 5/37)، وعليه فإن أحداً لم يسمع صوت الله.
في حين أن الإنجيليين الثلاثة يتحدثون عن صوت لله سمعه الناس بعد عمادة المسيح على يد يوحنا المعمدان، يقول مرقس: "وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سررتُ" (مرقس 1/11)، و(انظر متى 17/5، ولوقا 3/22)، فكيف يتحدث الإنجيليون عن صوت الله وهو يبشر بالمسيح في حين أن يوحنا يذكر أن أحداً لم يسمع صوت الله ولم يره؟
هل يوحنا المعمدان هو إيلياء؟
ويذكر يوحنا أن الكهنة واللاويين أرسلوا إلى يوحنا المعمدان ليسألوه : من أنت ؟ فسألوه وقالوا : " أأنت إيليا ؟ فقال : لست أنا " (يوحنا 1/20 - 22).
لكن متى يذكر أن المسيح قال عنه بأنه إيليّا " الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه.. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمع أن يأتي، من له أذنان للسمع فليسمع" ( متى 11/14 ).
وفي موضع آخر قال المسيح، وهو يقصد يوحنا : " ولكني أقول لكم : إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا " (مرقس 9/13)، فلزم من هذا التناقض تكذيب أحد النبيين أو تكذيب كتبة الأناجيل، وهو الصحيح.
متى يبست التينة؟
لكن مرقس يزعم أن هذه القصة حدثت قبل عيد الفصح بيومين "كان الفصح وأيام الفطير بعد يومين، وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا: ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب ... جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن" ( 14/1-4 )، والفصح الذي يتحدث عنه مرقس في أواخر تبشير المسيح، أي العيد الذي حصلت فيه حادثة الصلب.
وأما يوحنا فجعل القصة قبل الفصح بستة أيام، بدلاً من يومين، يقول يوحنا: " ثم قبل الفصح بستة أيام .. فأخذت مريم منّاً من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع ومسحت " ( 12/1-3)، وهو يتحدث عن ذات الفصح الذي تحدث عنه مرقس، أي الذي سبق أحداث الصلب، فمتى حصلت القصة؟ وهل أخطأ روح القدس في إبلاغ بعضهم؟ أم أن الإنجيليين كانوا هم المخطئين؟
هل جرب إبليس المسيح على الجبل أولاً أم في الهيكل؟
ويتحدث الإنجيليون عن تجربة إبليس للمسيح في موضعين، أحدهما في القدس عند الهيكل، والثانية عند جبل عال جداً، لكن الإنجيليين يختلفون في ترتيب الحدثين، فمتّى يرى أن تجربة الهيكل أولاً ثم تلته تجربة الجبل، فيقول: "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل .. ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها" (متى 4/5-8).
وهذا الترتيب يخالف فيه لوقا ، والذي يرى أن تجربة الجبل حصلت أولاً "ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان. وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ ... ثم جاء به إلى أورشليم، وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل" (لوقا 4/5-9).
أما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة، بل على سبيل دين. وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له براً، كما يقول داود أيضاً في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال .. أفهذا التطويب هو على الختان فقط أم على الغرلة أيضاً؟ لأننا نقول: إنه حسب لإبراهيم الإيمان براً. فكيف حسب؟ أوَهو في الختان أم في الغرلة؟ ليس في الختان بل في الغرلة" (رومية 4/2-6)، فالإيمان دون العمل هو طريق البر، وكما تبرر إبراهيم به يتبرر المؤمنون، هذا هو مذهب بولس "الإنسان يتبرر بالإيمان، بدون أعمال الناموس " (رومية 3/27-28).
وأما التلميذ يعقوب فيخالفه ويناقضه، حين يرى أن الإيمان بدون عمل لا يجدي شيئاً، بل هو إيمان ميت، ويستدل لذلك ببرارة إبراهيم مناقضاً بولس، حيث لم يكف إيمان إبراهيم ليكون باراً عند الله، إذ أصبح باراً بالعمل، حين قدم ابنه إسحاق ذبيحة بين يدي الله، فحسب ذلك له براً، يقول يعقوب: "ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدم اسحق ابنه على المذبح، فترى أن الإيمان عمل مع أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان، وتم الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً ودعي خليل الله.
ترون إذاً أنه بالأعمال يتبرر الإنسان، لا بالإيمان وحده .. لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضا بدون أعمال ميت" (يعقوب 2/21-26)، فهل تبرر إبراهيم بالإيمان وحده، أم أن الإيمان بدون عمل جسد ميت؟
أين كانت موعظة المسيح؟
ويذكر الإنجيليون موعظة المسيح الطويلة لتلاميذه، والتي عزّى فيها الفقراء والجياع، وتهدد الأغنياء والمتخمين، لكنهم اختلفوا في الموضع الذي كانت فيه الموعظة ، "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه .. " (متى 5/1)، فمتّى يرى أن الموعظة كانت على الجبل.
وهو ما يخالفه فيه لوقا، والذي يجعل الموعظة في سهل، لا في الجبل، فيقول: "ونزل معهم، ووقف في موضع سهل هو وجمع من تلاميذه .." (لوقا 6/17).
نهاية يهوذا
ويتحدث العهد الجديد عن نهايتين مختلفتين للتلميذ الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح، وسعى في الدلالة عليه وتسليمه مقابل ثلاثين درهماً من الفضة، فيقول متى: " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة، وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم" (متى 27/2-5).
ولكن سفر أعمال الرسل يحكي نهاية أخرى ليهوذا وردت في سياق خطبة بطرس، حيث قال: "أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع، إذ كان معدوداً بيننا، وصار له نصيب في هذه الخدمة، فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم" (أعمال 1/16-20).
فقد اختلف النصان في جملة من الأمور:
- كيفية موت يهوذا، فإما أن يكون قد خنق نفسه ومات " ثم مضى وخنق نفسه"، وإما أن يكون قد مات بسقوطه، حيث انشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه فمات " وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها "، ولا يمكن أن يموت يهوذا مرتين، كما لا يمكن أن يكون قد مات بالطريقتين معاً.
- من الذي اشترى الحقل، هل هو يهوذا " فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم"، أم الكهنة الذين أخذوا منه المال " فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري "؟
{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } (سورة النساء، آية : 82 ).تعطي الآية معياراً صحيحاً للتحقق من صحة نسبة أي كتاب إلى الله عز وجل، فالبشر من طبعهم الخطأ والنسيان، والتخليط بعد تقادم الأيام، ولذا تأتي كتاباتهم منسجمة مع هذه الطبائع البشرية.
ولو طبقنا هذا المعيار على الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، فإنا سنرى آثار هذه الطبائع تتجلى في أخطاء الإنجيليين وتخالفهم وتناقضهم في الأحداث والأحكام التي يوردونها في كتاباتهم.
ووجود التناقض يدحض دعوى إلهامية هذه الكتب، واعتبارها جزء من كلمة الله التي أوحاها إلى بعض تلاميذ المسيح.
ويعترف النصارى ضمناً بصحة هذا المعيار، لذا نرى شراح العهد الجديد يعمدون إلى تفسير التناقضات والصعوبات التي تواجه النص، ويتأولونها بعيداً عن الحقيقة التي ينطق بها النص، ليقينهم بأن بقاء التناقض يعني بشرية الكتب ونفي إلهاميتها وقداستها.
ولما كان النصارى يؤمنون بالأناجيل الأربعة، وهي جميعاً تتحدث عن قصة المسيح كان لابد أن تتشابه هذه القصص، في معانيها ومضامينها أو - على الأقل - أن تتكامل لتكون رواية متكاملة عن المسيح.
لكن عند المقارنة بين المعطيات الإنجيلية في الحدث الواحد نرى تناقضاً يحيل العقل الجمع فيه على وجه من الوجوه، ويتكرر هذا التعارض والتناقض في كثير من الرواية الإنجيلية.
وأمام هذه التناقضات كان لابد للنصارى أن يختاروا بعض هذه الأناجيل أو بعض رواياتهم فيجعلونها مقدسة، ويرفضون ما وراء ذلك، أو أن يعترفوا ببشرية الأناجيل الأربعة كتابة ووضعاً، فيمكن فهم التناقض حينذاك، وأما الإصرار على أن هذا المتناقض كله من الله، فهذا ما نرفضه نحن وهم على سواء. فهل تتناقض الأناجيل فعلاً ؟
أمثلة التناقض في العهد الجديد
ضرب المحققون عشرات الأمثلة لتناقض الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها، منها ما يتعلق ببعض الأحداث التي تقصها الأناجيل، ومنها ما يجعل المسيح متناقضاً مع نفسه زمنها على الخصوص تلك التناقضات المتعلقة بروايات حادثة الصلب، ومنها تلك التي خالف فيها الإنجيليون ما في العهد القديم، فبدلوا في رواياته أو أخطؤوا، فحصل منهم التناقض:
أولاً: تناقضات الإنجيليين في رواياتهم بعض الأحداث
نسب المسيح
لعل أهم وأصرح تناقضات العهد الجديد تناقض متى ولوقا في نسب يوسف النجار، فقد اختلفا اختلافاً لا يمكن الجمع فيه، كما تناقض لوقا ومتى مع ما جاء في سفر الأيام الأول، وهو يتحدث عن بعض ملوك إسرائيل الذين جعلهم متى من أجداد المسيح.
يقول متى: " كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم. إبراهيم ولد إسحق. وإسحق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا وإخوته، ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد أرام، وأرام ولد عمينا داب. وعمينا داب ولد نحشون. ونحشون ولد سلمون، وسلمون ولد بوعز من راحاب. وبوعز ولد عوبيد من راعوث. وعوبيد ولد يسى، ويس ولد داود الملك.
وداود الملك ولد سليمان من التي لأوريا، وسليمان ولد رحبعام. ورحبعام ولد أبيا. وأبيا ولد آسا. وآسا ولد يهوشافاط. ويهوشافاط ولد يورام. ويورام ولد عزيا. وعزيا ولد يوثام. ويوثام ولد أحاز. وأحاز ولد حزقيا. وحزقيا ولد منسي. ومنسي ولد آمون. وآمون ولد يوشيا. ويوشيا ولد يكنيا وإخوانه عند سبي بابل.
وبعد سبي بابل يكنيا ولد شألتئيل. وشألتئيل ولد زربابل. وزربابل ولد أبيهود. وأبيهود ولد ألياقيم. وألياقيم ولد عازور. وعازور ولد صادوق. وصادوق ولد أخيم. وأخيم ولد أليود. وأليود ولد أليعازر، وأليعازر ولد متان. ومتان ولد يعقوب. ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع، الذي يدعى المسيح.
جميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً. ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً " ( متى 1/1 - 17 ).
لكن لوقا يورد نسباً آخر للمسيح يختلف تمام الاختلاف عما جاء في متى يقول لوقا :" ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو - على ما كان يظن - ابن يوسف بن هالي، بن منثات بن لاوي بن ملكي بن ينا بن يوسف بن متاثيا ابن عاموص بن ناحون بن حسلي بن نجاي، بن ماث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا، بن يوحنا بن ريسا.
ابن زربابل بن شألتئيل بن نيري، بن ملكي بن أدى بن قصم بن ألمودام بن عير، بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي. بن شمعون بن يوذا بن يوسف بن يونان بن ألياقيم بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود.
ابن يسى بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناداب بن أرام بن حصورن بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
ابن تارح بن ناحور، بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن فينان بن أرفكشاد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم ابن الله " ( لوقا 3/23 - 38 ).
توقف المحققون ملياً عند التناقض في نسب المسيح، وقد استوقفتهم ملاحظات منها :
- أن متى ولوقا اتفقا في ابتداء النسب بيوسف النجار، ثم افترقا ليلتقيا من جديد بزربابل بن شألتئيل، حيث جعله متى الجد العاشر ليوسف النجار، فيما جعله لوقا الجد التاسع عشر ليوسف.
ثم اختلف الإنجيليان من جديد اختلافاً كبيراً، فقد جعل متى المسيح من ذرية ملوك بني إسرائيل سليمان ثم رحبعام ثم أبيا ثم آسا ثم يهوشافاط....، بينما يجعله لوقا من نسل ناثان بن داود، وليس في أبنائه من ملك على بني اسرائيل.
يهوشافاط ... يهوشافاط ... ألياقيم ... أخيم ... يوسف
يورام ... يورام ... يونان ... أليود ... شمعى
... ... أخزيا ... يوسف ... اليعازر ... متاثيا
... ... يواش ... يهوذا ... متان ... مآث
... ... أمصيا ... شمعون ... يعقوب ... نجاى
عزيا ... عزريا ... لاوى ... يوسف ... حسلى
يوثام ... يوثام ... متثات ... ناحوم
أحاز ... أحاز ... بوريم ... عاموص
حزقيال ... حزقيال ... أليعازر ... مُتاثيا
منسي ... منسي ... يوسى ... يوسف
آمون ... آمون ... عير ... ينا
يوشيا ... يوشيا ... ألمودام ... ملكى
... ... يهوياقيم ... قصم ... لاوى
يكنيا ... يكنيا ... أدى ... متثات
شالتئيل ... ... ... ملكى ... هالى
... ... فدايا ... نيرى ... يوسف
والسؤال كيف يجمع علماء الكتاب المقدس بين تناقضات أنساب المسيح ؟
قال بعضهم: " لا يراد من هذا شجرة نسب كامل ... أسماء قد سقطت من بعض الإنجيليين، وهذا للتوضيح الموصل إلى الرغبة بإثبات سلالة مؤسسة على الصحة التاريخية في خطوطها العريضة أو عناصرها الأساسية ".
ولكن بوكاي لا يرى هذا التبرير مقبولاً، لأن النصوص لا تسمح بمثل هذا الافتراض، إذ أن نص التوراة الذي اعتمد عليه الإنجيليون يقول : فلان في عمر كذا أنجب كذا، ثم عاش كذا من السنين، وهكذا فليس ثمة انقطاع.
ويقول صاحب كتاب " شمس البر ": "معرفتنا بطريقة تأليف جداول النسب في تلك الأيام قاصرة جداً "، ويعلق بوكاي: " لاشك أن نسب المسيح في الأناجيل قد دفع المعلقين المسيحيين إلى بهلوانيات جدلية متميزة صارخة تكافئ الوهم والهوى عند كل من لوقا ومتى ". (1)
وإذا كانت الأناجيل تختلف بأمر بمثل هذه الأهمية والوضوح، فكيف لنا أن نثق بما وراء ذلك من أخبار ووقائع وتفصيلات تعرضها عن حياة المسيح وغيره.
من الذي طلب الملكوت، الأم أم ابناها؟
ومن تناقضات الأناجيل أيضاً ما تناقض فيه متى مع مرقس، فقد ذكر متى أنه " تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها وسجدت، وطلبت منه شيئاً، وقالت له : قل : أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك، فأجابها يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان... " ( متى 20/20 - 23 ).
وفي مرقس تذكر القصة نفسها وبنفس حيثياتها، لكن الذي طلب الملكوت هما الابنان، وليس أمهما، يقول مرقس: " وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي قائلين: يا معلّم نريد أن تفعل لنا كل ما طلبنا ... فقالا له: أعطنا أن نجلس واحد عن يمينك، والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان...." ( مرقس 10/35 - 38 ).
يقول جون فنتون في تفسيره لإنجيل متى : لقد أحدث متى بعضاً من التغيرات والحذف لما في إنجيل مرقس، وأهم ما في ذلك، أنه بينما في إنجيل مرقس نجد أن التلميذين نفسيهما يطلبان من يسوع، إذ بأمهما هي التي تطلب منه حسب رواية متى.
هل أوصى المسيح تلاميذه بأخذ العصا أم أوصاهم بتركها؟
ومن التناقضات أن مرقس يذكر وصية المسيح لتلاميذه بعد أن أعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة فقال : "وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً ولا نحاساً في المنطقة، بل يكونوا مشدودين بنعال، ولا يلبسوا ثوبين " ( مرقس 6/8 - 9 ).
لكن الوصية في لوقا تتفق مع مرقس في أمور وتختلف في أخرى فقد جاء فيها: " وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى، وقال لهم: لا تحملوا شيئاً للطريق، لا عصا ولا مزوداً ولا خبزاً، ولا فضة ولا يكون للواحد ثوبان " ( لوقا 9/2-3). فقد تناقضا في وصية المسيح بخصوص العصا.
كما ناقض إنجيلُ متى القديسَ مرقس في حمل العصا والأحذية، إذ نسب إلى المسيح قوله: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضة، ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين، ولا أحذية ولا عصا" (متى 10/9-10)، فقد نص متى على منعهم من اقتناء (أي تملك) الأحذية والعصا، مخالفاً ما جاء في إنجيل مرقس.
هل سمعوا صوت الله أم أن الله لا يسمع صوته
يتحدث يوحنا عن الله الآب فيقول: "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا رأيتم هيئته" (يوحنا 5/37)، وعليه فإن أحداً لم يسمع صوت الله.
في حين أن الإنجيليين الثلاثة يتحدثون عن صوت لله سمعه الناس بعد عمادة المسيح على يد يوحنا المعمدان، يقول مرقس: "وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سررتُ" (مرقس 1/11)، و(انظر متى 17/5، ولوقا 3/22)، فكيف يتحدث الإنجيليون عن صوت الله وهو يبشر بالمسيح في حين أن يوحنا يذكر أن أحداً لم يسمع صوت الله ولم يره؟
هل يوحنا المعمدان هو إيلياء؟
ويذكر يوحنا أن الكهنة واللاويين أرسلوا إلى يوحنا المعمدان ليسألوه : من أنت ؟ فسألوه وقالوا : " أأنت إيليا ؟ فقال : لست أنا " (يوحنا 1/20 - 22).
لكن متى يذكر أن المسيح قال عنه بأنه إيليّا " الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه.. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمع أن يأتي، من له أذنان للسمع فليسمع" ( متى 11/14 ).
وفي موضع آخر قال المسيح، وهو يقصد يوحنا : " ولكني أقول لكم : إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا " (مرقس 9/13)، فلزم من هذا التناقض تكذيب أحد النبيين أو تكذيب كتبة الأناجيل، وهو الصحيح.
متى يبست التينة؟
لكن مرقس يزعم أن هذه القصة حدثت قبل عيد الفصح بيومين "كان الفصح وأيام الفطير بعد يومين، وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا: ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب ... جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن" ( 14/1-4 )، والفصح الذي يتحدث عنه مرقس في أواخر تبشير المسيح، أي العيد الذي حصلت فيه حادثة الصلب.
وأما يوحنا فجعل القصة قبل الفصح بستة أيام، بدلاً من يومين، يقول يوحنا: " ثم قبل الفصح بستة أيام .. فأخذت مريم منّاً من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع ومسحت " ( 12/1-3)، وهو يتحدث عن ذات الفصح الذي تحدث عنه مرقس، أي الذي سبق أحداث الصلب، فمتى حصلت القصة؟ وهل أخطأ روح القدس في إبلاغ بعضهم؟ أم أن الإنجيليين كانوا هم المخطئين؟
هل جرب إبليس المسيح على الجبل أولاً أم في الهيكل؟
ويتحدث الإنجيليون عن تجربة إبليس للمسيح في موضعين، أحدهما في القدس عند الهيكل، والثانية عند جبل عال جداً، لكن الإنجيليين يختلفون في ترتيب الحدثين، فمتّى يرى أن تجربة الهيكل أولاً ثم تلته تجربة الجبل، فيقول: "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل .. ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها" (متى 4/5-8).
وهذا الترتيب يخالف فيه لوقا ، والذي يرى أن تجربة الجبل حصلت أولاً "ثم أصعده إبليس إلى جبل عال، وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان. وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ ... ثم جاء به إلى أورشليم، وأقامه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل" (لوقا 4/5-9).
أما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة، بل على سبيل دين. وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له براً، كما يقول داود أيضاً في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال .. أفهذا التطويب هو على الختان فقط أم على الغرلة أيضاً؟ لأننا نقول: إنه حسب لإبراهيم الإيمان براً. فكيف حسب؟ أوَهو في الختان أم في الغرلة؟ ليس في الختان بل في الغرلة" (رومية 4/2-6)، فالإيمان دون العمل هو طريق البر، وكما تبرر إبراهيم به يتبرر المؤمنون، هذا هو مذهب بولس "الإنسان يتبرر بالإيمان، بدون أعمال الناموس " (رومية 3/27-28).
وأما التلميذ يعقوب فيخالفه ويناقضه، حين يرى أن الإيمان بدون عمل لا يجدي شيئاً، بل هو إيمان ميت، ويستدل لذلك ببرارة إبراهيم مناقضاً بولس، حيث لم يكف إيمان إبراهيم ليكون باراً عند الله، إذ أصبح باراً بالعمل، حين قدم ابنه إسحاق ذبيحة بين يدي الله، فحسب ذلك له براً، يقول يعقوب: "ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدم اسحق ابنه على المذبح، فترى أن الإيمان عمل مع أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان، وتم الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً ودعي خليل الله.
ترون إذاً أنه بالأعمال يتبرر الإنسان، لا بالإيمان وحده .. لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضا بدون أعمال ميت" (يعقوب 2/21-26)، فهل تبرر إبراهيم بالإيمان وحده، أم أن الإيمان بدون عمل جسد ميت؟
أين كانت موعظة المسيح؟
ويذكر الإنجيليون موعظة المسيح الطويلة لتلاميذه، والتي عزّى فيها الفقراء والجياع، وتهدد الأغنياء والمتخمين، لكنهم اختلفوا في الموضع الذي كانت فيه الموعظة ، "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه .. " (متى 5/1)، فمتّى يرى أن الموعظة كانت على الجبل.
وهو ما يخالفه فيه لوقا، والذي يجعل الموعظة في سهل، لا في الجبل، فيقول: "ونزل معهم، ووقف في موضع سهل هو وجمع من تلاميذه .." (لوقا 6/17).
نهاية يهوذا
ويتحدث العهد الجديد عن نهايتين مختلفتين للتلميذ الخائن يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح، وسعى في الدلالة عليه وتسليمه مقابل ثلاثين درهماً من الفضة، فيقول متى: " لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، قائلاً: قد أخطأت، إذ سلمت دماً بريئاً. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة، وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة، لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم" (متى 27/2-5).
ولكن سفر أعمال الرسل يحكي نهاية أخرى ليهوذا وردت في سياق خطبة بطرس، حيث قال: "أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع، إذ كان معدوداً بيننا، وصار له نصيب في هذه الخدمة، فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم" (أعمال 1/16-20).
فقد اختلف النصان في جملة من الأمور:
- كيفية موت يهوذا، فإما أن يكون قد خنق نفسه ومات " ثم مضى وخنق نفسه"، وإما أن يكون قد مات بسقوطه، حيث انشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه فمات " وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها "، ولا يمكن أن يموت يهوذا مرتين، كما لا يمكن أن يكون قد مات بالطريقتين معاً.
- من الذي اشترى الحقل، هل هو يهوذا " فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم"، أم الكهنة الذين أخذوا منه المال " فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري "؟