الأثر التشريعي والأخلاقي للعهد الجديد
جاء في كلام المسيح " احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثماراً ردية.
لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع ثماراً ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة، كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، فإذاً من ثمارهم تعرفونهم " ( متى 7/15 - 20 ).
يسوق المسلمون هذا النص الإنجيلي ويطلبون من النصارى التحاكم إليه، ومن ثم تكون الثمار دالة على حسن الغرس أو سوئه.
واقع المجتمعات النصرانية
وعند النظر إلى المجتمع النصراني بشكل عام يسجل المحققون على المجتمع النصراني انتشار عدد من الموبقات، من أهمها : (الزنا والشذوذ - الانتحار والجرائم - التمييز العنصري البغيض - التفكك الأسري والعلاقات الاجتماعية السيئة - المخدرات والمسكرات والخمور - الانسلاخ من الدين وشيوع الإلحاد - الوحشية مع الأمم الأخرى ...).
ويتبين من هذا كله من خلال بعض الأرقام التي أوردها المحققون نقلاً عن إحصائيات صادرة في الغرب إضافة إلى قراءتهم الصحيحة للمجتمع النصراني.
فقد نشرت مجلة بونتي الألمانية إحصاءً حول معتقدات الألمان، ونتيجة الإحصاء أن 65% من الألمان يؤمنون بالله، و50% يؤمنون بالحياة بعد الموت والجزاء فيه.
أنه ثمة نصوص تصطدم مع طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، ومنه ما جاء في العهد الجديد من حث على التبتل وترك الزواج يقول بولس: " أقول لغير المتزوجين وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا " ( كورنثوس (1) 7/8 ).
وفي نص آخر يقول: " لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله " ( رومية 8/7 )، وعليه فالأكل والشرب والنوم والزواج ... وغيرها من حاجات الإنسان الفطرية إنما يمارسها الإنسان وهو يعادي ربه، وهذه حرب على الفطرة الإنسانية.
وأما التلميذ يعقوب فيبالغ في تحذيره من محبة العالم ، من غير أن يفرق بين الخير والشر، فيقول: "أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة للّه، فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً للّه" (يعقوب 4/4)، فهل محبة الخير أو الوالدين أو حتى شهوات الإنسان الفطرية من نكاح وتناسل وطعام وشراب، هل محبة هذه المحبوبات عداوة لله؟!
- وفي مرة أخرى ينسب متى إلى المسيح أنه قال: " يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل " ( متى 19/12 ).
- ويذكر متى دعوة المسيح إلى التخلي عن الدنيا بما فيها الحاجات الأساسية والضرورية للحياة الإنسانية السوية، فقد جاءه رجل فقال للمسيح بأنه حفظ الوصايا كلها " فماذا يعوزني بعد؟ قال له يسوع : إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال واتبعني، (لكن الشاب الصالح) مضى حزيناً، لأنه كان ذا أموال كثيرةً.
فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم : إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله، فلما سمع تلاميذه بهتوا جداً قائلين : إذاً من يستطيع أن يخلص " ( متى 19/20 - 25 ).
فهذا النص وأمثاله محارب لدفعة الحياة التي بها يقوم العمران والحضارات.
ومثله تلك الدعوة التي نرى فيها دعوة للتكاسل والقعود، تبأس البشرية إن فعلتها، وهي ما جاء في لوقا: " لاتهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقوتها ... تأملوا الزنابق كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل ... فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون، ولا تقلقوا ... بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم " ( لوقا 12/22 - 31 ).
- ومثله يذكر متى أن المسيح أمر تلاميذه: " لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصاً " ( متى 10/9 - 10 )، فكيف تعمر الأرض لو امتثل الناس جميعاً بهذا الأمر المحال.
- ومما يصادم الفطرة الإنسانية المثالية غير المعقولة ولا المحمودة في بعض فقرات العهد الجديد كما في قول متى الذي نسبه إلى للمسيح في قوله : "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم" (متى 5/44)، فعلاوة على كون الأمر بمحبة الأعداء أمراً محالاً لم تطبقه المجتمعات النصرانية في يوم من الأيام، فإنه لا يحسن أن يكون المسيح قد أمر بمحبة الشيطان، أكبر أعداء الإنسان، ومثله يقال في شياطين الإنس الذين يبغضهم الله، ولا يحسن بالمؤمن أن يحبهم وقد أبغضهم ربه جل وعلا.
وتزداد النكارة والغرابة من أمر الكتاب المؤمنين بمحبة أعدائهم مهما أساؤوا وصنعوا، بينما يطلب في موضع آخر من المؤمنين أن يبغضوا أولئك الذين أحسنوا إليهم أو يلوذون بهم من والِدين وإخوة وأبناء، فإن بغضهم وكراهيتهم شرط للتلمذة عند السيد المسيح كما زعم لوقا "إن كان أحد يأتي إلي، ولا يبغض أباه وأمه وأولاده وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون تلميذاً " (لوقا 14/26 - 27 ).
ثانياً : العجز التشريعي للعهد الجديد
ورأى المحققون أيضاً أن تشريعات الأناجيل عاجزة عن إقامة الحياة المستقيمة المتكاملة بما تحمل هذه الأناجيل من مثالية مقيتة يستحيل أن تصلح الحياة معها، ومن ذلك ما نسبه متى إلى المسيح: "من لطمك على خدك، فحول له الآخر أيضاً " ( متى 5/39 )، وقد ورد النص في مقابل القصاص، ولذلك فهو إلغاء لشريعة القصاص، أو إضافة أخلاقية تفتقر إلى المعقولية، وكأني به يحث على الرضا بالضيم والظلم، وهو ولا ريب سبب عظيم في ظهور الفساد والبغي.
ومثله قول لوقا: " من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك.... ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه به " ( لوقا 6/28 - 29 )، فهل يصنع هذا احد من العقلاء؟ ولو صنعه الناس فأي واقع من الظلم والاضطهاد والشرور سيكون؟!
وهنا نتساءل : لو كان هذا النص من كلام المسيح، فلم خالفه عندما ضربه خدم رؤساء الكهنة فلم يعرض له الخد الآخر، بل قال له: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني " (يوحنا 18/23 ).
كما ثمة تساؤل آخر يبحث عن إجابة: هل طبقت الكنيسة هذا الخلق في جولة من جولاتها أم أن واقع الحال يؤذن بأن هذا المقال من المحال، وإذا عجزت الكنيسة والمسيح عن ذلك، فغيرهما عنه أعجز.
ويحرم العهد الجديد الطلاق إلا بعلة الزنا، فيقول: " فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان .. أقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني " (متى 19/6 - 9).
وهذا التشريع سبب من أسباب انتشار البغاء، إذ هو المخرج والسبيل الذي يلجأ إليه أولئك الذين حالت مشاكل الحياة واختلافات البشر دون إكمال مسيرتهم الزوجية، وحرم عليهم العهد الجديد أن يبنوا حياتهم على الطُهر من جديد.
ولكن كل ما ذكرناه ليس إلا أسباباً جانبية للبلاء، وأما أسّ البلاء الذي تعاني منه المجتمعات النصرانية فيكمن في عقيدة الخلاص والفداء، والتي تجعل الإيمان بصلب المسيح كافياً للخلاص ومحرراً من لعنة الناموس والشريعة التي نسخها بولس بأقواله ، لقد نسخ - بجرة قلم - كل ما قررته الشريعة من تحريم وتجريم وعقوبة من ارتكب الموبقات المختلفة من زنا وشرب للخمور وقتل وفساد، إذ الإيمان بالمسيح المصلوب نيابة عنا يكفر خطايانا مهما عظمت، وهكذا يمضي المؤمن بهذه النصوص إلى ضروب الرذيلة وفنونها غير خائف من عقاب الله ودينونته.
لقد سمى بولس شريعة الله التي تهذب السلوك البشري: لعنة، فقال: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غلاطية 3/13).
وأعلن عن عدم الحاجة إليها بعد صلب المسيح فقال: " قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب " ( غلاطية 3/24 - 25 ).
وأكد إبطال الناموس بقوله: "سلامنا الذي جعل الاثنين واحد ... مبطلاً بجسده ناموس الوصايا" ( أفسس 2/14-5 ).
ويقول أيضاً: " الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما " ( غلاطية 2/16 ).
وهؤلاء الذين يصرون على العمل بالناموس يرى بولس أنهم يسيئون للمسيح: " قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس " ( غلاطية 5/4 ).
ويمضي مؤكداً عدم الحاجة إلى الأعمال الصالحة، فيقول: " إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذاً مات بلا سبب " ( غلاطية 2/21 ).
ويقول: " أبناموس الأعمال؟ كلا بل بناموس الإيمان، إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس " ( رومية 3/27-28 ).
ويؤكده في قوله: " نشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم " ( يوحنا 4/14 ) فجعل الخلاص عاماً لكل الخطايا وشاملاً لكل البشر ، مهما عملوا من الموبقات والرزايا، لذا أضحى أهل الجنة - وفق المفهوم البولسي هم أراذل الناس وسفلتهم - ، إذ من أمِن العقوبة أساء الأدب.
وقد كان لهذه النصوص صدى كبير في النصرانية ونظرتها للشريعة، فقد فهم رواد النصرانية قبل غيرهم من هذه النصوص أن كل الموبقات قد أضحت حلالاً، فيقول لوثر أحد مؤسسي المذهب البروتستانتي: " إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك، إنه يرفض أعمالنا ... إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها".
ويقول ميلا نكتون في كتابه "الأماكن اللاهوتية" : " إن كنت سارقاً أو زانياً أو فاسقاً لا تهتم بذلك، عليك فقط أن لا تنسى أن الله هو شيخ كثير الطيبة، وأنه قد سبق وغفر لك خطاياك قبل أن تخطئ بزمن مديد". (1)
وهكذا تبين لنا أن البلاء والفساد الذي آلت إليه أوربا والغرب النصراني عامة، إنما كان بسبب هذا الكتاب الذي يصر النصارى على أنه يمثل - رغم سلبياته الهائلة - كلمة الله الهادية إلى البر والجنة والملكوت.
جاء في كلام المسيح " احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً، هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثماراً جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثماراً ردية.
لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع ثماراً ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيدة، كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، فإذاً من ثمارهم تعرفونهم " ( متى 7/15 - 20 ).
يسوق المسلمون هذا النص الإنجيلي ويطلبون من النصارى التحاكم إليه، ومن ثم تكون الثمار دالة على حسن الغرس أو سوئه.
واقع المجتمعات النصرانية
وعند النظر إلى المجتمع النصراني بشكل عام يسجل المحققون على المجتمع النصراني انتشار عدد من الموبقات، من أهمها : (الزنا والشذوذ - الانتحار والجرائم - التمييز العنصري البغيض - التفكك الأسري والعلاقات الاجتماعية السيئة - المخدرات والمسكرات والخمور - الانسلاخ من الدين وشيوع الإلحاد - الوحشية مع الأمم الأخرى ...).
ويتبين من هذا كله من خلال بعض الأرقام التي أوردها المحققون نقلاً عن إحصائيات صادرة في الغرب إضافة إلى قراءتهم الصحيحة للمجتمع النصراني.
فقد نشرت مجلة بونتي الألمانية إحصاءً حول معتقدات الألمان، ونتيجة الإحصاء أن 65% من الألمان يؤمنون بالله، و50% يؤمنون بالحياة بعد الموت والجزاء فيه.
أنه ثمة نصوص تصطدم مع طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، ومنه ما جاء في العهد الجديد من حث على التبتل وترك الزواج يقول بولس: " أقول لغير المتزوجين وللأرامل: إنه حسن لهم إذا لبثوا كما أنا " ( كورنثوس (1) 7/8 ).
وفي نص آخر يقول: " لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله " ( رومية 8/7 )، وعليه فالأكل والشرب والنوم والزواج ... وغيرها من حاجات الإنسان الفطرية إنما يمارسها الإنسان وهو يعادي ربه، وهذه حرب على الفطرة الإنسانية.
وأما التلميذ يعقوب فيبالغ في تحذيره من محبة العالم ، من غير أن يفرق بين الخير والشر، فيقول: "أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة للّه، فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً للّه" (يعقوب 4/4)، فهل محبة الخير أو الوالدين أو حتى شهوات الإنسان الفطرية من نكاح وتناسل وطعام وشراب، هل محبة هذه المحبوبات عداوة لله؟!
- وفي مرة أخرى ينسب متى إلى المسيح أنه قال: " يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يقبل فليقبل " ( متى 19/12 ).
- ويذكر متى دعوة المسيح إلى التخلي عن الدنيا بما فيها الحاجات الأساسية والضرورية للحياة الإنسانية السوية، فقد جاءه رجل فقال للمسيح بأنه حفظ الوصايا كلها " فماذا يعوزني بعد؟ قال له يسوع : إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال واتبعني، (لكن الشاب الصالح) مضى حزيناً، لأنه كان ذا أموال كثيرةً.
فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم : إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله، فلما سمع تلاميذه بهتوا جداً قائلين : إذاً من يستطيع أن يخلص " ( متى 19/20 - 25 ).
فهذا النص وأمثاله محارب لدفعة الحياة التي بها يقوم العمران والحضارات.
ومثله تلك الدعوة التي نرى فيها دعوة للتكاسل والقعود، تبأس البشرية إن فعلتها، وهي ما جاء في لوقا: " لاتهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقوتها ... تأملوا الزنابق كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل ... فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون، ولا تقلقوا ... بل اطلبوا ملكوت الله، وهذه كلها تزاد لكم " ( لوقا 12/22 - 31 ).
- ومثله يذكر متى أن المسيح أمر تلاميذه: " لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصاً " ( متى 10/9 - 10 )، فكيف تعمر الأرض لو امتثل الناس جميعاً بهذا الأمر المحال.
- ومما يصادم الفطرة الإنسانية المثالية غير المعقولة ولا المحمودة في بعض فقرات العهد الجديد كما في قول متى الذي نسبه إلى للمسيح في قوله : "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم" (متى 5/44)، فعلاوة على كون الأمر بمحبة الأعداء أمراً محالاً لم تطبقه المجتمعات النصرانية في يوم من الأيام، فإنه لا يحسن أن يكون المسيح قد أمر بمحبة الشيطان، أكبر أعداء الإنسان، ومثله يقال في شياطين الإنس الذين يبغضهم الله، ولا يحسن بالمؤمن أن يحبهم وقد أبغضهم ربه جل وعلا.
وتزداد النكارة والغرابة من أمر الكتاب المؤمنين بمحبة أعدائهم مهما أساؤوا وصنعوا، بينما يطلب في موضع آخر من المؤمنين أن يبغضوا أولئك الذين أحسنوا إليهم أو يلوذون بهم من والِدين وإخوة وأبناء، فإن بغضهم وكراهيتهم شرط للتلمذة عند السيد المسيح كما زعم لوقا "إن كان أحد يأتي إلي، ولا يبغض أباه وأمه وأولاده وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون تلميذاً " (لوقا 14/26 - 27 ).
ثانياً : العجز التشريعي للعهد الجديد
ورأى المحققون أيضاً أن تشريعات الأناجيل عاجزة عن إقامة الحياة المستقيمة المتكاملة بما تحمل هذه الأناجيل من مثالية مقيتة يستحيل أن تصلح الحياة معها، ومن ذلك ما نسبه متى إلى المسيح: "من لطمك على خدك، فحول له الآخر أيضاً " ( متى 5/39 )، وقد ورد النص في مقابل القصاص، ولذلك فهو إلغاء لشريعة القصاص، أو إضافة أخلاقية تفتقر إلى المعقولية، وكأني به يحث على الرضا بالضيم والظلم، وهو ولا ريب سبب عظيم في ظهور الفساد والبغي.
ومثله قول لوقا: " من ضربك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك.... ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه به " ( لوقا 6/28 - 29 )، فهل يصنع هذا احد من العقلاء؟ ولو صنعه الناس فأي واقع من الظلم والاضطهاد والشرور سيكون؟!
وهنا نتساءل : لو كان هذا النص من كلام المسيح، فلم خالفه عندما ضربه خدم رؤساء الكهنة فلم يعرض له الخد الآخر، بل قال له: " إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني " (يوحنا 18/23 ).
كما ثمة تساؤل آخر يبحث عن إجابة: هل طبقت الكنيسة هذا الخلق في جولة من جولاتها أم أن واقع الحال يؤذن بأن هذا المقال من المحال، وإذا عجزت الكنيسة والمسيح عن ذلك، فغيرهما عنه أعجز.
ويحرم العهد الجديد الطلاق إلا بعلة الزنا، فيقول: " فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان .. أقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني " (متى 19/6 - 9).
وهذا التشريع سبب من أسباب انتشار البغاء، إذ هو المخرج والسبيل الذي يلجأ إليه أولئك الذين حالت مشاكل الحياة واختلافات البشر دون إكمال مسيرتهم الزوجية، وحرم عليهم العهد الجديد أن يبنوا حياتهم على الطُهر من جديد.
ولكن كل ما ذكرناه ليس إلا أسباباً جانبية للبلاء، وأما أسّ البلاء الذي تعاني منه المجتمعات النصرانية فيكمن في عقيدة الخلاص والفداء، والتي تجعل الإيمان بصلب المسيح كافياً للخلاص ومحرراً من لعنة الناموس والشريعة التي نسخها بولس بأقواله ، لقد نسخ - بجرة قلم - كل ما قررته الشريعة من تحريم وتجريم وعقوبة من ارتكب الموبقات المختلفة من زنا وشرب للخمور وقتل وفساد، إذ الإيمان بالمسيح المصلوب نيابة عنا يكفر خطايانا مهما عظمت، وهكذا يمضي المؤمن بهذه النصوص إلى ضروب الرذيلة وفنونها غير خائف من عقاب الله ودينونته.
لقد سمى بولس شريعة الله التي تهذب السلوك البشري: لعنة، فقال: " المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غلاطية 3/13).
وأعلن عن عدم الحاجة إليها بعد صلب المسيح فقال: " قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب " ( غلاطية 3/24 - 25 ).
وأكد إبطال الناموس بقوله: "سلامنا الذي جعل الاثنين واحد ... مبطلاً بجسده ناموس الوصايا" ( أفسس 2/14-5 ).
ويقول أيضاً: " الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما " ( غلاطية 2/16 ).
وهؤلاء الذين يصرون على العمل بالناموس يرى بولس أنهم يسيئون للمسيح: " قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس " ( غلاطية 5/4 ).
ويمضي مؤكداً عدم الحاجة إلى الأعمال الصالحة، فيقول: " إن كان بالناموس بر، فالمسيح إذاً مات بلا سبب " ( غلاطية 2/21 ).
ويقول: " أبناموس الأعمال؟ كلا بل بناموس الإيمان، إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس " ( رومية 3/27-28 ).
ويؤكده في قوله: " نشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم " ( يوحنا 4/14 ) فجعل الخلاص عاماً لكل الخطايا وشاملاً لكل البشر ، مهما عملوا من الموبقات والرزايا، لذا أضحى أهل الجنة - وفق المفهوم البولسي هم أراذل الناس وسفلتهم - ، إذ من أمِن العقوبة أساء الأدب.
وقد كان لهذه النصوص صدى كبير في النصرانية ونظرتها للشريعة، فقد فهم رواد النصرانية قبل غيرهم من هذه النصوص أن كل الموبقات قد أضحت حلالاً، فيقول لوثر أحد مؤسسي المذهب البروتستانتي: " إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك، إنه يرفض أعمالنا ... إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها".
ويقول ميلا نكتون في كتابه "الأماكن اللاهوتية" : " إن كنت سارقاً أو زانياً أو فاسقاً لا تهتم بذلك، عليك فقط أن لا تنسى أن الله هو شيخ كثير الطيبة، وأنه قد سبق وغفر لك خطاياك قبل أن تخطئ بزمن مديد". (1)
وهكذا تبين لنا أن البلاء والفساد الذي آلت إليه أوربا والغرب النصراني عامة، إنما كان بسبب هذا الكتاب الذي يصر النصارى على أنه يمثل - رغم سلبياته الهائلة - كلمة الله الهادية إلى البر والجنة والملكوت.