هذه الأقوال وسواها تدل على أن وقوع القيامة وعودة المسيح قبلها، سيحصل في زمن الجيل الأول، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، وقد مرت قرون طويلة متطاولة دون تحققه ، فدل ذلك على أن هذه النبوءات من الغلط الذي وقع به الإنجيليون.
ويبدو أن المسيح أبلغ أصحابه بنزوله من السماء قبيل يوم القيامة، وذكر لهم بعضاً من الأمور التي تحدث قبله، وطرأ الغلط والتحريف من قولهم بأن ذلك سيكون في زمن الجيل الأول.
ويتهرب المفسر بنيامين بنكرتن من هذه النصوص الواضحة الدلالة فيقول: " إن المراد من إتيان المسيح في ملكوته هو معجزة التجلي الآتي ذكرها .. وإن القوم هم بطرس ويوحنا ويعقوب"(1) أي أن تفسير هذه النصوص هو القيامة المزعومة للمسيح بعد موته بثلاثة أيام.
ولكن كلام المفسر من العبث، إذ النصوص تتحدث عن إتيان للمسيح فوق السحاب يرافقه مجد الله، بينما كان المسيح عند عودته بعد الصلب المزعوم متخفياً. ثم هل كان المسيح يخبر تلاميذه عن أمر سيحصل قبل أن ينتهي الجيل، وقبل أن يكملوا التبشير في مدن اليهودية، هل كان يحدثهم عما سيحصل بعد أسبوع !!!
ثم ماذا عن النصوص التي قالها بولس وغيره بعد القيامة؟ وأين العلامات التي رافقت مجيء المسيح.
معجزات المؤمنين
ومن النصوص أيضاً التي تثبت شهادة الواقع خطأ الإنجيليين فيها ، لأن المسيح لا يكذب، ولا يمكن أن يقول ما نسب إليه فيها، إذ هو من الخطأ البيّن.
من ذلك ما جاء في خاتمة مرقس، ففيها أن المسيح ظهر لتلاميذه بعد الصلب وقال لهم: "وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيّات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى، فيبرؤون " ( مرقس 16/17 - 18 ).
ويبالغ يوحنا في عرضه للمعجزات التي يتوارثها النصارى عن المسيح، إذ يقول في نص آخر بأن المسيح قال لليهود: " الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد " وفهم اليهود منه موتاً حقيقياً فقالوا: " ألعلك أعظم من أنبياء إبراهيم الذي مات، والأنبياء ماتوا " فلم يتهمهم بسوء الفهم بل قال لهم: " إن كنت أمجد نفسي فليس مجدي شيئاً، أبي هو الذي يمجدني" ( يوحنا 8/51 - 54 ).
إذاً هذه النصوص تتحدث عن معجزات يصنعها المؤمنون، فهل يتحقق شيء منها في حياة أولئك الذين يدعون الإيمان بالمسيح؟
هل حقق آباء الكنيسة فضلاً عن بقية المؤمنين أمثال معجزة المسيح أو أفضل منها؟ هل أحيوا موتى؟ هل شفوا مرضى؟ هل أتقنوا لغات عدة وصاروا يتكلمون بألسنة مختلفة؟ أم هم غير مؤمنين فلم تقع منهم هذه المعجزات وأمثالها؟
ولو كانت هذه النصوص حقاً من أقوال المسيح لما مات بابوات الكنيسة، ولما رأينا القسس والمبشرين يجتهدون في تعلم اللغات للتبشير ثم قد ينجحون وقد لا ينجحون، ولو كان حقاً لما مات البابا اسكندر السادس ولا غيره من النصارى مسموماً !!
وفي مناظرة ديدات لكبير قساوسة السويد ستانلي شوبرج وقف واحد من الجمهور، وقرأ على القس شوبرج نص مرقس ( 16/16 - 18)، وطلب إليه إن كان مؤمناً أن يشرب زجاجة سُم رفعها الرجل بيده قائلاً : " اشرب هذا السائل السام المميت ولا تمت، لأن عندك إيمان بألوهية يسوع، وعندك إيمان بصدق ".
فتغير وجه شوبرج، وتلعثم في القول، وقال: " إننا لو شربنا شيئاً ساماً لا نموت. إن هذا أمر غريب، أنا مؤمن بالله وبالروح القدس كحقيقة، الروح القدس يخبرنا ماذا سيحدث لنا. لقد قالت لي زوجتي منذ ثلاثين يوماً : يا استانلي كن حذراً، إن شخصاً ما سيغتالك بالسم ... أنا أرى الشيطان بداخلك ( للسائل )، أنا لا أريد أن أقوم باستعراض... ". ثم حمل السمّ وصبه في حوض الزرع.
التعويض السريع في الدنيا
ومن الأمور التي ذكرتها الأناجيل أيضاً، ويكذبها واقع الناس ما جاء في مرقس أن بطرس قال للمسيح: " ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فأجاب يسوع وقال: أقول لكم : ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مائة ضعف الآن في هذا الزمان بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية " ( مرقس 10/28 - 30 ) ومثله في متى : " يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية " ( متى 19/29 )، وفي لوقا: " يأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة " ( لوقا 18/29 - 30 ).
وحار المحققون في فهم كيفية الحصول على هذا التعويض، كيف يمكن للإنسان أن يصبح عنده أمهات وآباء كثر... وإذا فُهم أن الآباء والإخوة والأمهات أمور مجازية، فكيف يفهم تعويض الحقول والزوجات؟ ومتى رأينا ذلك لأحد أولئك الذين يهجرون أوطانهم للتبشير، فيتركون أمهاتهم وأخواتهم وأموالهم، متى أعطوا جزاء في الدنيا مائة ضعف.
والنص واضح الدلالة أنه يتحدث عن جزاء دنيوي " مع اضطهادات "، وستحصل " في هذا الزمان " ثم وعد بالحياة الأبدية في الآخرة.
فهذا النص من الكذب، ولو كان حقاً لرأينا الناس يسرعون إلى إجابة هذه الدعوة، ولكشفت التجربة الواقعة منها عن معطيات يستبق الناس إليها ويقتتلون من أجلها.
الأرض كروية أم مسطحة؟
ويتحدث سفر الرؤيا عن الأرض وقد رآها يوحنا مسطحة لها أربع زوايا، ويقف ملَك عند كل زاوية من الزوايا الأربع، يقول يوحنا: "وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على أربع زوايا الأرض، ممسكين أربع رياح الأرض، لكي لا تهب ريح على الأرض ولا على البحر ولا على شجرة ما" (الرؤيا 7/1)، وقد أعاد يوحنا ذكر زوايا الأرض الأربعة ثانية في قوله: "ثم متى تمت الألف السنة يُحَل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض" (الرؤيا 20/7).
وأكد متى هذا التصور للأرض حين تحدث عن تجربة إبليس للمسيح، فعندما أراد أن يريه جميع ممالك الأرض أصعده إلى جبل عال، فرأى جميع العوالم والممالك، " ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها" (متى 4/8).
والذي مكنه من رؤيتها علو الجبل الذي صعد عليه، وهذا قد يستقيم فيما لو كانت الأرض مسطحة، لكنه يستحيل مع كرويتها، كما لا يخفى.
ثالثاً : أغلاط بشهادة العقل
كما ثمة أغلاط في الأناجيل يشهد العقل بأنها لا تصدر عن الوحي، لأنه أي العقل يشهد بخطئها وجهل قائلها بقوانين الله في الطبيعة.
نجم في سماء أورشليم
ذكر متى قصة المجوس الذين جاءوا للمسيح عند ولادته وسجدوا له فقال: " ولما ولد يسوع في بيت لحم في أيام هيردوس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود ؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق، وأتينا لنسجد له ... ذهبوا إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء، ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً..." (متى 2/1-10).
فعند عرض القصة على العقل فإنه يرفضها لأمور :
- أن متى يتحدث عن نجم يمشي، وحركته - على رغم بعده الهائل - ملحوظة على الأرض تشير إلى بعض أزقة أورشليم دون بعض، ثم إلى بيت من بيوتها، حيث يوجد المسيح، فيتوقف وهو في السماء ،فكيف مشى، وكيف دلهم على البيت، وكيف وقف ؟!! وكيف رأوا ذلك كله ؟ أسئلة ليس لها إجابة.
- كيف عرف المجوس خبر المسيح ونجمه وهم لا يعرفون الله؟ وكيف يسجدون لنبي وهم لا يؤمنون بدينه؟ فهذا من الكذب بدليل أن أحداً من قدماء المجوس ومؤرخيهم لم ينقل مثل هذا، وكذلك لم ينقله الإنجيليون الآخرون، ومنهم لوقا الذي تتبع كل شيء بتدقيق.
- ثم لماذا تحمل المجوس عناء هذه الرحلة الطويلة؟ هل لمجرد أن يسجدوا بين يديه ويقدموا له الهدايا ثم يعودون!!؟
كما يتحدث النص عن اهتمام الوالي هيرودس بأمر المولود وأنه أضمر قتله، وطلب من المجوس أن يخبروه إذا وجدوا الطفل ليسجد له، ثم أُوحي للمجوس في المنام أن لا يرجعوا لهيرودس، ففعلوا، فلو كان اهتمام هيرودس حقاً لقام معهم إلى بيت لحم وهي على مقربة من أورشليم، أو لأرسل معهم خاصته، إذ الموضوع بالنسبة إليه جِدُّ خطير.
وأما ما ذكره متى عن قتل هيرودس للأطفال بعد تواري المجوس قبل أن يقف على الطفل فهذا كذب بدليل أن أحداً من المؤرخين لم يذكره على أهمية هذا الحدث، كما ننبه إلى أن هيرودس الكبير قد مات قبل الميلاد بأربع سنوات كما تذكر ذلك كافة المصادر التاريخية.
الركوب على الجحش والأتان معاً
ومما يكذبه العقل ولا يتصوره ما ذكره متى عند حديثه عن دخول المسيح أورشليم فقال: "وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس ( أي المسيح ) عليهما " ( متى 21/7 ) فجلوس المسيح على الجحش والأتان معاً لا يتصوره العقل.
وهو غلط وكذب أراد متى من خلاله أن يحقق نبوءة توراتية " فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21/4-5).
عجائب متى عند موت المصلوب
ومثله يرفض العقل ما حكاه متى من عجائب حصلت عند موت المسيح يقول: " وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين " ( متى 27/51 - 54 ).
والقصة من الغلط بل والكذب، إذ لم يعهد مثل هذه العودة للقديسين والراقدين، ولم يعهد أن عاد هؤلاء أو غيرهم من الموت.
ثم ماذا بعد العودة هل تزوجوا؟ وهل عادوا لبيوتهم؟ أم ماتوا بعدها؟ أم..، ثم ماذا كانت ردة فعل اليهود وبيلاطس والتلاميذ أمام هذا الحدث العظيم؟
الإجابة : لا شيء. إذ لم يذكر شيء عند متى ولا عند غيره ممن لم يذكر هذه العجائب، ولو كانت حقاً لسارت في خبرها الركبان، ولآمن الناس بالمسيح حينذاك، يقول الأب كننغسر : يجب الامتناع عن الهزء (أي بمثل هذه الأخبار )، لأن نية متى كانت محترمة جداً، إنه يدمج المعطيات القديمة للرواية الشفهية مع مؤلَفه، ولكن يبقى إخراجه لائقاً بعيسى، المسيح النجم.
وقال نورتن الملقب بحامي الإنجيل :" هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكايات كانت رائجة عند اليهود بعد ما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكاتب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم، فترجمها على حسبه".
ونقول ما قاله العلامة أبو زهرة: " لعل كثيراً مما في المتن أصله في الحاشية ثم نقل خطأ في المتن"، فكيف يتسنى لنا بيان هذا الزائف وإخراجه من الكتاب؟ (1)
كيف اختفت هذه الأغلاط وغيرها عن أعين النصارى
لقد بقيت هذه الأغلاط وغيرها حبيسة دفتي الكتاب المقدس قروناً طويلة، بقي خلالها الكتاب المقدس حكراً على رجالات الكنيسة بعيداً عن أيدي العامة.
ولما ظهرت الطباعة وانتشرت نسخ الكتاب المقدس في القرن السادس عشر أكد آباء الكنيسة أن شرح الأناجيل وفهم ما فيها هو من اختصاص البابا الذي يُعينه في ذلك روح القدس.
بيد أن مارتن لوثر وأتباعه رفضوا هذه الخصوصية للكنيسة، وطالبوا بأن يكون حق قراءة وفهم الكتاب المقدس لكل أحد، فانعقد مجمع تريدنت نوتردام في 1542 - 1563م للرد على دعوة لوثر.
وكان من قراراته : " إذا كان ظاهراً من التجربة أنه إذا كان الجميع يقرؤون في الكتب باللفظ الدارج، فالشر الناتج من ذلك أكثر من الخير، فلأجل هذا ليكن للأسقف أو القاضي في بيت التفتيش سلطان حسب تميزه بمشورة القس أو معلم الاعتراف ليأذن في قراءة الكتاب باللفظ الدارج لأولئك الذين يظنون أنهم يستفيدون، ويجب أن يكون الكتاب مستخرجاً من معلم كاثوليكي، والإذن المعطى بخط اليد، وإن كان أحد بدون الإذن يتجاسر أن يتجرأ أو يأخذ هذا الكتاب فلا يسمح له بحل خطيئته حتى يرد الكتاب إلى الحاكم ". (1)
ويبدو في قرار المجمع هروب وهلع من اكتشاف العامة لأغلاط الكتاب المقدس وما فيه من المفاسد، وهو ما يؤكده بعض المحققين، حين يربطون بين الإلحاد الذي شاع في أوربا وانتشار نسخ الكتاب المقدس واطلاع العامة على ما فيه.
رأي النصارى في أغلاط الكتاب الأناجيل
وبعد : لعل المرء يتساءل ما هو رأي النصارى بأغلاط الأناجيل ؟ وهل يقرونها ؟
في الإجابة نقول : لا ريب أن أتباع الكنيسة الذين أغلقوا عقولهم في وجه الحقيقة يرفضون أن يحوي الإنجيل غلطاً، لأن روح القدس لا يغلط، ومن هؤلاء الدكتور القس شروش حيث يقول : " إنا نعلم أن الإنجيل هو وحي الله، لأن التنبؤ بالأحداث قد تم قبل وقوع الأحداث بقرون، إن للإنجيل تأثيره على المجتمعات البشرية طالما تم الإيمان به والعمل بمقتضاه. أكثر من ذلك فإن دقة الإنجيل قد وجدت من يتحداها، ولكنها لم تجد من ينجح في التحدي ".
ويقول أيضاً : " إن صحة محتويات الإنجيل قد أثبتتها الوثائق التاريخية والحفريات الأثرية والوثائق القديمة، وتوجد الآن أكثر من خمس وعشرين ألف وثيقة من الوثائق المقدسة بالمتحف البريطاني من أجلكم، لكي تتأكدوا من صحة مشيئة الله ". (2)
ولما كانت الحقيقة - بوجود الغلط في الأناجيل والرسائل - ساطعة كالشمس عمل بعض علماء النصرانية على التخلص من هذه الأغلاط بالإقرار بأن الإلهام لم يكن مصاحباً للإنجيليين حال كل كتابة كتبوها، يقول هورن: " إذا قيل إن الكتب المقدسة أوحي بها من عند الله لا يراد أن كل الألفاظ والعبارات من إلهام الله ... ولا يتخيل أنهم كانوا يلهمون في كل أمر يبينونه، وفي كل حكم كانوا يحكمون به ".
وتقول دائرة المعارف البريطانية: " وقع النزاع في أن كل قول مندرج في الكتب المقدسة هل هو إلهامي أم لا ؟ وكذا كل حال من الحالات المندرجة فيها، فقال جيروم وكثيرون : ليس كل قول إلهامي ... الذين قالوا: إن كل قول إلهامي لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة ". (1)
وهذا القول يطالب قائلوه بتعيين المواضع غير الإلهامية وإقامة الدليل على خصوصها بعدم الإلهام أو إقامة الدليل على خصوص المواضع التي يقولون بإلهاميتها، وإذا لم يتم ذلك وجب التوقف في شأن الكتب المقدسة، إذ فيها ما هو عمل بشري لا يجوز اعتباره مصدراً دينياً.
ويبدو أن المسيح أبلغ أصحابه بنزوله من السماء قبيل يوم القيامة، وذكر لهم بعضاً من الأمور التي تحدث قبله، وطرأ الغلط والتحريف من قولهم بأن ذلك سيكون في زمن الجيل الأول.
ويتهرب المفسر بنيامين بنكرتن من هذه النصوص الواضحة الدلالة فيقول: " إن المراد من إتيان المسيح في ملكوته هو معجزة التجلي الآتي ذكرها .. وإن القوم هم بطرس ويوحنا ويعقوب"(1) أي أن تفسير هذه النصوص هو القيامة المزعومة للمسيح بعد موته بثلاثة أيام.
ولكن كلام المفسر من العبث، إذ النصوص تتحدث عن إتيان للمسيح فوق السحاب يرافقه مجد الله، بينما كان المسيح عند عودته بعد الصلب المزعوم متخفياً. ثم هل كان المسيح يخبر تلاميذه عن أمر سيحصل قبل أن ينتهي الجيل، وقبل أن يكملوا التبشير في مدن اليهودية، هل كان يحدثهم عما سيحصل بعد أسبوع !!!
ثم ماذا عن النصوص التي قالها بولس وغيره بعد القيامة؟ وأين العلامات التي رافقت مجيء المسيح.
معجزات المؤمنين
ومن النصوص أيضاً التي تثبت شهادة الواقع خطأ الإنجيليين فيها ، لأن المسيح لا يكذب، ولا يمكن أن يقول ما نسب إليه فيها، إذ هو من الخطأ البيّن.
من ذلك ما جاء في خاتمة مرقس، ففيها أن المسيح ظهر لتلاميذه بعد الصلب وقال لهم: "وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيّات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى، فيبرؤون " ( مرقس 16/17 - 18 ).
ويبالغ يوحنا في عرضه للمعجزات التي يتوارثها النصارى عن المسيح، إذ يقول في نص آخر بأن المسيح قال لليهود: " الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد " وفهم اليهود منه موتاً حقيقياً فقالوا: " ألعلك أعظم من أنبياء إبراهيم الذي مات، والأنبياء ماتوا " فلم يتهمهم بسوء الفهم بل قال لهم: " إن كنت أمجد نفسي فليس مجدي شيئاً، أبي هو الذي يمجدني" ( يوحنا 8/51 - 54 ).
إذاً هذه النصوص تتحدث عن معجزات يصنعها المؤمنون، فهل يتحقق شيء منها في حياة أولئك الذين يدعون الإيمان بالمسيح؟
هل حقق آباء الكنيسة فضلاً عن بقية المؤمنين أمثال معجزة المسيح أو أفضل منها؟ هل أحيوا موتى؟ هل شفوا مرضى؟ هل أتقنوا لغات عدة وصاروا يتكلمون بألسنة مختلفة؟ أم هم غير مؤمنين فلم تقع منهم هذه المعجزات وأمثالها؟
ولو كانت هذه النصوص حقاً من أقوال المسيح لما مات بابوات الكنيسة، ولما رأينا القسس والمبشرين يجتهدون في تعلم اللغات للتبشير ثم قد ينجحون وقد لا ينجحون، ولو كان حقاً لما مات البابا اسكندر السادس ولا غيره من النصارى مسموماً !!
وفي مناظرة ديدات لكبير قساوسة السويد ستانلي شوبرج وقف واحد من الجمهور، وقرأ على القس شوبرج نص مرقس ( 16/16 - 18)، وطلب إليه إن كان مؤمناً أن يشرب زجاجة سُم رفعها الرجل بيده قائلاً : " اشرب هذا السائل السام المميت ولا تمت، لأن عندك إيمان بألوهية يسوع، وعندك إيمان بصدق ".
فتغير وجه شوبرج، وتلعثم في القول، وقال: " إننا لو شربنا شيئاً ساماً لا نموت. إن هذا أمر غريب، أنا مؤمن بالله وبالروح القدس كحقيقة، الروح القدس يخبرنا ماذا سيحدث لنا. لقد قالت لي زوجتي منذ ثلاثين يوماً : يا استانلي كن حذراً، إن شخصاً ما سيغتالك بالسم ... أنا أرى الشيطان بداخلك ( للسائل )، أنا لا أريد أن أقوم باستعراض... ". ثم حمل السمّ وصبه في حوض الزرع.
التعويض السريع في الدنيا
ومن الأمور التي ذكرتها الأناجيل أيضاً، ويكذبها واقع الناس ما جاء في مرقس أن بطرس قال للمسيح: " ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فأجاب يسوع وقال: أقول لكم : ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مائة ضعف الآن في هذا الزمان بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية " ( مرقس 10/28 - 30 ) ومثله في متى : " يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية " ( متى 19/29 )، وفي لوقا: " يأخذ في هذا الزمان أضعافاً كثيرة " ( لوقا 18/29 - 30 ).
وحار المحققون في فهم كيفية الحصول على هذا التعويض، كيف يمكن للإنسان أن يصبح عنده أمهات وآباء كثر... وإذا فُهم أن الآباء والإخوة والأمهات أمور مجازية، فكيف يفهم تعويض الحقول والزوجات؟ ومتى رأينا ذلك لأحد أولئك الذين يهجرون أوطانهم للتبشير، فيتركون أمهاتهم وأخواتهم وأموالهم، متى أعطوا جزاء في الدنيا مائة ضعف.
والنص واضح الدلالة أنه يتحدث عن جزاء دنيوي " مع اضطهادات "، وستحصل " في هذا الزمان " ثم وعد بالحياة الأبدية في الآخرة.
فهذا النص من الكذب، ولو كان حقاً لرأينا الناس يسرعون إلى إجابة هذه الدعوة، ولكشفت التجربة الواقعة منها عن معطيات يستبق الناس إليها ويقتتلون من أجلها.
الأرض كروية أم مسطحة؟
ويتحدث سفر الرؤيا عن الأرض وقد رآها يوحنا مسطحة لها أربع زوايا، ويقف ملَك عند كل زاوية من الزوايا الأربع، يقول يوحنا: "وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على أربع زوايا الأرض، ممسكين أربع رياح الأرض، لكي لا تهب ريح على الأرض ولا على البحر ولا على شجرة ما" (الرؤيا 7/1)، وقد أعاد يوحنا ذكر زوايا الأرض الأربعة ثانية في قوله: "ثم متى تمت الألف السنة يُحَل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض" (الرؤيا 20/7).
وأكد متى هذا التصور للأرض حين تحدث عن تجربة إبليس للمسيح، فعندما أراد أن يريه جميع ممالك الأرض أصعده إلى جبل عال، فرأى جميع العوالم والممالك، " ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها" (متى 4/8).
والذي مكنه من رؤيتها علو الجبل الذي صعد عليه، وهذا قد يستقيم فيما لو كانت الأرض مسطحة، لكنه يستحيل مع كرويتها، كما لا يخفى.
ثالثاً : أغلاط بشهادة العقل
كما ثمة أغلاط في الأناجيل يشهد العقل بأنها لا تصدر عن الوحي، لأنه أي العقل يشهد بخطئها وجهل قائلها بقوانين الله في الطبيعة.
نجم في سماء أورشليم
ذكر متى قصة المجوس الذين جاءوا للمسيح عند ولادته وسجدوا له فقال: " ولما ولد يسوع في بيت لحم في أيام هيردوس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود ؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق، وأتينا لنسجد له ... ذهبوا إذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء، ووقف فوق حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً..." (متى 2/1-10).
فعند عرض القصة على العقل فإنه يرفضها لأمور :
- أن متى يتحدث عن نجم يمشي، وحركته - على رغم بعده الهائل - ملحوظة على الأرض تشير إلى بعض أزقة أورشليم دون بعض، ثم إلى بيت من بيوتها، حيث يوجد المسيح، فيتوقف وهو في السماء ،فكيف مشى، وكيف دلهم على البيت، وكيف وقف ؟!! وكيف رأوا ذلك كله ؟ أسئلة ليس لها إجابة.
- كيف عرف المجوس خبر المسيح ونجمه وهم لا يعرفون الله؟ وكيف يسجدون لنبي وهم لا يؤمنون بدينه؟ فهذا من الكذب بدليل أن أحداً من قدماء المجوس ومؤرخيهم لم ينقل مثل هذا، وكذلك لم ينقله الإنجيليون الآخرون، ومنهم لوقا الذي تتبع كل شيء بتدقيق.
- ثم لماذا تحمل المجوس عناء هذه الرحلة الطويلة؟ هل لمجرد أن يسجدوا بين يديه ويقدموا له الهدايا ثم يعودون!!؟
كما يتحدث النص عن اهتمام الوالي هيرودس بأمر المولود وأنه أضمر قتله، وطلب من المجوس أن يخبروه إذا وجدوا الطفل ليسجد له، ثم أُوحي للمجوس في المنام أن لا يرجعوا لهيرودس، ففعلوا، فلو كان اهتمام هيرودس حقاً لقام معهم إلى بيت لحم وهي على مقربة من أورشليم، أو لأرسل معهم خاصته، إذ الموضوع بالنسبة إليه جِدُّ خطير.
وأما ما ذكره متى عن قتل هيرودس للأطفال بعد تواري المجوس قبل أن يقف على الطفل فهذا كذب بدليل أن أحداً من المؤرخين لم يذكره على أهمية هذا الحدث، كما ننبه إلى أن هيرودس الكبير قد مات قبل الميلاد بأربع سنوات كما تذكر ذلك كافة المصادر التاريخية.
الركوب على الجحش والأتان معاً
ومما يكذبه العقل ولا يتصوره ما ذكره متى عند حديثه عن دخول المسيح أورشليم فقال: "وأتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما، فجلس ( أي المسيح ) عليهما " ( متى 21/7 ) فجلوس المسيح على الجحش والأتان معاً لا يتصوره العقل.
وهو غلط وكذب أراد متى من خلاله أن يحقق نبوءة توراتية " فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون: هو ذا ملكك يأتيك وديعاً راكباً على أتان وجحش ابن أتان" (متى 21/4-5).
عجائب متى عند موت المصلوب
ومثله يرفض العقل ما حكاه متى من عجائب حصلت عند موت المسيح يقول: " وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين " ( متى 27/51 - 54 ).
والقصة من الغلط بل والكذب، إذ لم يعهد مثل هذه العودة للقديسين والراقدين، ولم يعهد أن عاد هؤلاء أو غيرهم من الموت.
ثم ماذا بعد العودة هل تزوجوا؟ وهل عادوا لبيوتهم؟ أم ماتوا بعدها؟ أم..، ثم ماذا كانت ردة فعل اليهود وبيلاطس والتلاميذ أمام هذا الحدث العظيم؟
الإجابة : لا شيء. إذ لم يذكر شيء عند متى ولا عند غيره ممن لم يذكر هذه العجائب، ولو كانت حقاً لسارت في خبرها الركبان، ولآمن الناس بالمسيح حينذاك، يقول الأب كننغسر : يجب الامتناع عن الهزء (أي بمثل هذه الأخبار )، لأن نية متى كانت محترمة جداً، إنه يدمج المعطيات القديمة للرواية الشفهية مع مؤلَفه، ولكن يبقى إخراجه لائقاً بعيسى، المسيح النجم.
وقال نورتن الملقب بحامي الإنجيل :" هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكايات كانت رائجة عند اليهود بعد ما صارت أورشليم خراباً، فلعل أحداً كتب في حاشية النسخة العبرانية لإنجيل متى، وأدخلها الكاتب في المتن، وهذا المتن وقع في يد المترجم، فترجمها على حسبه".
ونقول ما قاله العلامة أبو زهرة: " لعل كثيراً مما في المتن أصله في الحاشية ثم نقل خطأ في المتن"، فكيف يتسنى لنا بيان هذا الزائف وإخراجه من الكتاب؟ (1)
كيف اختفت هذه الأغلاط وغيرها عن أعين النصارى
لقد بقيت هذه الأغلاط وغيرها حبيسة دفتي الكتاب المقدس قروناً طويلة، بقي خلالها الكتاب المقدس حكراً على رجالات الكنيسة بعيداً عن أيدي العامة.
ولما ظهرت الطباعة وانتشرت نسخ الكتاب المقدس في القرن السادس عشر أكد آباء الكنيسة أن شرح الأناجيل وفهم ما فيها هو من اختصاص البابا الذي يُعينه في ذلك روح القدس.
بيد أن مارتن لوثر وأتباعه رفضوا هذه الخصوصية للكنيسة، وطالبوا بأن يكون حق قراءة وفهم الكتاب المقدس لكل أحد، فانعقد مجمع تريدنت نوتردام في 1542 - 1563م للرد على دعوة لوثر.
وكان من قراراته : " إذا كان ظاهراً من التجربة أنه إذا كان الجميع يقرؤون في الكتب باللفظ الدارج، فالشر الناتج من ذلك أكثر من الخير، فلأجل هذا ليكن للأسقف أو القاضي في بيت التفتيش سلطان حسب تميزه بمشورة القس أو معلم الاعتراف ليأذن في قراءة الكتاب باللفظ الدارج لأولئك الذين يظنون أنهم يستفيدون، ويجب أن يكون الكتاب مستخرجاً من معلم كاثوليكي، والإذن المعطى بخط اليد، وإن كان أحد بدون الإذن يتجاسر أن يتجرأ أو يأخذ هذا الكتاب فلا يسمح له بحل خطيئته حتى يرد الكتاب إلى الحاكم ". (1)
ويبدو في قرار المجمع هروب وهلع من اكتشاف العامة لأغلاط الكتاب المقدس وما فيه من المفاسد، وهو ما يؤكده بعض المحققين، حين يربطون بين الإلحاد الذي شاع في أوربا وانتشار نسخ الكتاب المقدس واطلاع العامة على ما فيه.
رأي النصارى في أغلاط الكتاب الأناجيل
وبعد : لعل المرء يتساءل ما هو رأي النصارى بأغلاط الأناجيل ؟ وهل يقرونها ؟
في الإجابة نقول : لا ريب أن أتباع الكنيسة الذين أغلقوا عقولهم في وجه الحقيقة يرفضون أن يحوي الإنجيل غلطاً، لأن روح القدس لا يغلط، ومن هؤلاء الدكتور القس شروش حيث يقول : " إنا نعلم أن الإنجيل هو وحي الله، لأن التنبؤ بالأحداث قد تم قبل وقوع الأحداث بقرون، إن للإنجيل تأثيره على المجتمعات البشرية طالما تم الإيمان به والعمل بمقتضاه. أكثر من ذلك فإن دقة الإنجيل قد وجدت من يتحداها، ولكنها لم تجد من ينجح في التحدي ".
ويقول أيضاً : " إن صحة محتويات الإنجيل قد أثبتتها الوثائق التاريخية والحفريات الأثرية والوثائق القديمة، وتوجد الآن أكثر من خمس وعشرين ألف وثيقة من الوثائق المقدسة بالمتحف البريطاني من أجلكم، لكي تتأكدوا من صحة مشيئة الله ". (2)
ولما كانت الحقيقة - بوجود الغلط في الأناجيل والرسائل - ساطعة كالشمس عمل بعض علماء النصرانية على التخلص من هذه الأغلاط بالإقرار بأن الإلهام لم يكن مصاحباً للإنجيليين حال كل كتابة كتبوها، يقول هورن: " إذا قيل إن الكتب المقدسة أوحي بها من عند الله لا يراد أن كل الألفاظ والعبارات من إلهام الله ... ولا يتخيل أنهم كانوا يلهمون في كل أمر يبينونه، وفي كل حكم كانوا يحكمون به ".
وتقول دائرة المعارف البريطانية: " وقع النزاع في أن كل قول مندرج في الكتب المقدسة هل هو إلهامي أم لا ؟ وكذا كل حال من الحالات المندرجة فيها، فقال جيروم وكثيرون : ليس كل قول إلهامي ... الذين قالوا: إن كل قول إلهامي لا يقدرون أن يثبتوا دعواهم بسهولة ". (1)
وهذا القول يطالب قائلوه بتعيين المواضع غير الإلهامية وإقامة الدليل على خصوصها بعدم الإلهام أو إقامة الدليل على خصوص المواضع التي يقولون بإلهاميتها، وإذا لم يتم ذلك وجب التوقف في شأن الكتب المقدسة، إذ فيها ما هو عمل بشري لا يجوز اعتباره مصدراً دينياً.