وذكر يوحنا أن المسيح خبّر تلاميذه بأوصاف البارقليط، والتي لم تتمثل بالروح القدس الحال على التلاميذ يوم الخمسين، فهو شاهد تنضاف شهادته إلى شهادة التلاميذ في المسيح " فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً " فأين شهد الروح القدس للمسيح؟ وبم شهد؟
بينا نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد للمسيح بالبراءة من الكفر وادعاء الألوهية والبنوة لله، كما شهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } (النساء: 156).
- وأخبر المسيح عن تمجيد الآتي له، فقال: "ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" ولم يمجد المسيح أحد ظهر بعده كما مجده نبي الإسلام ، فقد أثنى عليه، وبيّن فضله على سائر العالمين.
في حين أنه لم ينقل لنا أي من أسفار العهد الجديد أن روح القدس أثنى على المسيح أو مجده يوم الخمسين، حين نزل على شكل ألسنة نارية.
- وأخبر المسيح أن البارقليط يمكث إلى الأبد، أي دينه وشريعته، بينا نجد أن ما أعطيه التلاميذ من قدرات يوم الخمسين - إن صح - اختفت بوفاتهم، ولم ينقل مثله عن رجالات الكنيسة بعدهم. وأما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيمكث إلى الأبد بهديه ورسالته، وإذ لا نبي بعده ولا رسالة.
- كما أن البارقليط " يذكركم بكل ما قلته لكم " وليس من حاجة بعد رفعه بعشرة أيام إلى مثل هذا التذكير، ولم ينقل العهد الجديد أن روح القدس ذكرهم بشيء، بل إنا نجد كتاباتهم ورسائلهم فيها ما يدل على تقادم الزمن ونسيان الكاتب لبعض التفاصيل التي يذكرها غيره، بينما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل ما غفلت عنه البشرية من أوامر الله التي أنزلها على أنبيائه ومنهم المسيح عليه السلام.
- والبارقليط له مهمات لم يقم بها الروح القدس يوم الخمسين فهو " متى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة " ولم يوبخ الروح القدس أحداً يوم الخمسين، بل هذا هو صنيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البشرية الكافرة.
ويرى عبد الأحد داود أن التوبيخ على البر قد فسره المسيح بقوله بعده: " وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني "، ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه، المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وقد أخبرهم أنه سيطلبونه ولن يجدوه، لأنه سيصعد إلى السماء، " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن ..." (يوحنا 13/32).
كما سيوبخ النبي الآتي الشيطان ويدينه بما يبثه من هدي ووحي "وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين".(1)
وصفة التوبيخ لا تناسب من سمي بالمعزي، وقيل بأنه جاء إلى التلاميذ يعزيهم بفقد سيدهم ونبيهم.
ثم العزاء إنما يكون في المصائب، والمسيح كان يبشرهم بذهابه ومجيء الآتي بعده.
كما أن العزاء إنما يكون حين المصيبة وبعدها بقليل، وليس بعد عشرة أيام (موعد نزول الروح القدس على التلاميذ)، ثم لماذا لم يقدم المعزي القادم العزاء لأم المسيح، فقد كانت أولى به.
ثم لا يجوز للنصارى أن يعتبروا قتل المسيح على الصليب مصيبة تستوجب العزاء، إذ هو برأيهم سبب الخلاص والسعادة الأبدية للبشرية، فوقوعه فرحة ما بعدها فرحة، وإصرار النصارى على أن التلاميذ احتاجوا لعزاء الروح القدس يبطل عقيدة الفداء والخلاص.
ومن استعراض ما سبق ثبت بأن روح القدس ليس هو البارقليط، فكل صفات البارقليط صفات لنبي يأتي بعد عيسى، وهو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، فالبارقليط " لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به "، وكذا الذي بشر به موسى " أجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به "، وهو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله { وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى - علمه شديد القوى } (النجم: 3 - 5).
بل كل ما ذكر عن البارقليط له شواهد في القرآن والسنة تقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب هذه النبوءة، إذ هو الشاهد للمسيح، وهو المخبر بالغيوب، الذي لا نبي بعده، وقد ارتضى الله دينه إلى قيام الساعة ديناً..
اعتراضات القس فندر وردود العلامة الهندي عليها
ويثير القس فندر في وجه المسلمين أسئلة يراها تمنع من صرف البارقليط إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أولها: أنه ورد في البارقليط أنه روح الحق ثلاث مرات، وفي مرة رابعة ورد أنه روح القدس(1) وهي كما يقول القس فندر ألفاظ مترادفة تدل على الروح القدس.
والعلامة رحمة الله الهندي في كتابه العظيم "إظهار الحق" يسلم بترادف هذه الألفاظ، ويؤكد أن لفظة (روح الله) دالة على الأنبياء أيضاً، كما جاء في رسالة يوحنا الأولى: "فلا تؤمنوا أيها الأحباء بكل روح من الأرواح، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا ؟ لأن كثيرين من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم " ( يوحنا (1) 4/1-2 )، فالأنبياء الصادقون هم روح الله، والأنبياء الكذبة هم روح الشيطان.
وبين يوحنا كيفية معرفة روح الحق من روح الضلال، أي معرفة الأنبياء الصادقين وتمييزهم عن الأنبياء الكذبة، فقال: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم" (يوحنا (1) 4/2 - 6).
ورسولنا هو روح الحق بدليل قول يوحنا، لأنه يعترف بالمسيح أنه رسول من عند الله، وأنه جسد، وأنه من الله كما سائر الناس هم من الله، أي أن الله خلقهم. وبولس هو روح الضلال الذي يعتبر المسيح إلهاً، وهو الموجود في العالم حينذاك.
ثانيها: أن الخطاب في إنجيل يوحنا توجه للحواريين كما في قوله " يعلمكم " و " أرسله إليكم".... وعليه فينبغي أن يوجد البارقليط في زمنهم.
ويمنع رحمة الله الهندي هذا الفهم، بل المراد: النصارى بعدهم. وأقامهم المسيح مقام التلاميذ، وهو أمر معهود في أسفار العهد الجديد، فقد جاء في متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع " أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء" (متى 26/64)، وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء.
ومثله قول المسيح: "وقال له: الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" (يوحنا 1/51).
ثالثها: أن البارقليط لا يراه العالم ولا يعرفه، فقد جاء "لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم" بينما محمد - صلى الله عليه وسلم - قد عرفه الناس ورأوه.
ويرد العلامة رحمة الله الهندي بأن هذا ليس بشيء، لأن روح القدس عندهم هو الله أو روح الله، والعالم يعرف ربه أكثر من معرفته بمحمد، فهي لا تصدق على تأويلهم بحال.
ويرى رحمة الله الهندي أن المقصود بالنص هو أن العالم لا يعرف هذا النبي المعرفة الحقيقية (أي نبوته) أما أنتم واليهود فتعرفونه، لإخبار المسيح والأنبياء لكم عنه.
وأما سائر الناس فهم كما قال المسيح: " لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون " (متى 13/13). (1)
وليس المقصود بقوله: " لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم" ليس مقصوداً الرؤية البصرية والمعرفة الحسية، بل المعرفة الإيمانية. ومثله ما جاء في يوحنا "أجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا، ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يوحنا 8/19) ومثله في الأناجيل كثير. يقول متى هنري في تفسيره لإنجيل يوحنا: إن كلمة (يرى) في النص اليوناني لا تفيد رؤية العين، بل رؤية البصيرة.
ولربما كان عدم معرفتهم بالمنتظر القادم أنه غريب وليس من اليهود " وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يوحنا 7/27).
رابعها: جاء في وصف البارقليط أنه " مقيم عندكم وثابت فيكم"، فدل - حسب رأي القس فندر - على وجوده مع الحواريين، ولا يصدق هذا على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويرى رحمة الله الهندي أن النص في تراجم وطبعات أخرى: " مستقر معكم وسيكون فيكم"، وفي غيرها: " ماكث معكم ويكون فيكم ".
والمعنى في ذلك كله الاستقبال وليس الآنية، بمعنى أنه سيقيم عندكم أو يمكث عندكم. ذلك أن النص دل على ذلك، فهو يقول بعدم وجوده بينهم ذلك الوقت " قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى متى إذا كان تؤمنوا "، و " إن لم أنطلق لم يأتكم البارقليط ". وهو ما يقوله النصارى حين يؤمنون أن مجيئه وحلوله كان في يوم الخمسين.
ومثله أخبر حزقيال عن خروج يأجوج ومأجوج بصيغة الحاضر، وهم لم يخرجوا بعد فقال: "ها هو قد جاء وصار، يقول الرب: هذا هو اليوم الذي قلت عنه " (حزقيال 39/8)، ومثله في (يوحنا 5/25).
خامسها: جاء في كتاب الأعمال: " وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمد الماء، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير " (أعمال 1/4 - 5)، ويرى فندر أن هذا " يدل على أن بارقليط هو الروح النازل يوم الدار، لأن المراد بموعد الآب هو بارقليط ".
وفي رده يبين رحمة الله الهندي أن ما جاء في الأعمال وعد آخر لا علاقة له بالبارقليط الذي تحدث عنه يوحنا فحسب، فقد وعدوا بمجيء الروح القدس في وعد آخر، وتحقق الموعود بما ذكر لوقا في الأعمال. أما ما ذكره يوحنا عن مجيء البارقليط فلا صلة له بهذه المسألة.
كما اعترض آخرون من النصارى على انطباق هذه النبوءة على نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأن البارقليط سيرسله المسيح " ولكن إن ذهبت أرسله إليكم"، ومثله في قوله: "المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب"، في حين أن محمداً رسول الله لا المسيح.
وقد تغافل القائل عن قول الله: "المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب"، فهو رسول الآب، ونسبة الإرسال إلى المسيح مجازية غير حقيقية، ومثلها في قوله : " قال لها ملاك الرب: تكثيراً أكثر نسلك، فلا يعد من الكثرة " (التكوين 16/10)، والمكثِّر المبارك لنسل هاجر وغيرها هو الله، وليس ملاكه، لكن لما كان الملاك هو واسطة الإخبار نسب الفعل إلى نفسه.
ونحو هذا الصنيع وقع في سفر الملوك، فقد نسب النبي إيليا إلى نفسه العقوبة الإلهية التي سيعاقب بها الربُ الملكَ اخآب، فقد " قال اخآب لايليا: هل وجدتني يا عدوي؟ فقال: قد وجدتك، لأنك قد بعتَ نفسك لعمل الشر في عيني الرب، هانذا أجلب عليك شراً، وأبيد نسلك، وأقطع لاخآب كل بائل بحائط ومحجوز ومطلق في إسرائيل" (الملوك (1) 21/20-21)، فقد نسب النبي إيليا إلى نفسه ما هو في الحقيقة صنيع الله وعقوبته، وهذه النسبة غير حقيقية، ولكنه استحقها لكونه المبلِغ عن الله لهذه العقوبة.
ومثله سواء بسواء ما قاله المسيح في نبوءته عن البارقليط.
وبذلك فإننا نرى في البارقليط النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم { وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } (الصف: 6).
بينا نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد للمسيح بالبراءة من الكفر وادعاء الألوهية والبنوة لله، كما شهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } (النساء: 156).
- وأخبر المسيح عن تمجيد الآتي له، فقال: "ذاك يمجدني، لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" ولم يمجد المسيح أحد ظهر بعده كما مجده نبي الإسلام ، فقد أثنى عليه، وبيّن فضله على سائر العالمين.
في حين أنه لم ينقل لنا أي من أسفار العهد الجديد أن روح القدس أثنى على المسيح أو مجده يوم الخمسين، حين نزل على شكل ألسنة نارية.
- وأخبر المسيح أن البارقليط يمكث إلى الأبد، أي دينه وشريعته، بينا نجد أن ما أعطيه التلاميذ من قدرات يوم الخمسين - إن صح - اختفت بوفاتهم، ولم ينقل مثله عن رجالات الكنيسة بعدهم. وأما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فيمكث إلى الأبد بهديه ورسالته، وإذ لا نبي بعده ولا رسالة.
- كما أن البارقليط " يذكركم بكل ما قلته لكم " وليس من حاجة بعد رفعه بعشرة أيام إلى مثل هذا التذكير، ولم ينقل العهد الجديد أن روح القدس ذكرهم بشيء، بل إنا نجد كتاباتهم ورسائلهم فيها ما يدل على تقادم الزمن ونسيان الكاتب لبعض التفاصيل التي يذكرها غيره، بينما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل ما غفلت عنه البشرية من أوامر الله التي أنزلها على أنبيائه ومنهم المسيح عليه السلام.
- والبارقليط له مهمات لم يقم بها الروح القدس يوم الخمسين فهو " متى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة " ولم يوبخ الروح القدس أحداً يوم الخمسين، بل هذا هو صنيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البشرية الكافرة.
ويرى عبد الأحد داود أن التوبيخ على البر قد فسره المسيح بقوله بعده: " وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني "، ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه، المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وقد أخبرهم أنه سيطلبونه ولن يجدوه، لأنه سيصعد إلى السماء، " يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد، ستطلبونني، وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم الآن ..." (يوحنا 13/32).
كما سيوبخ النبي الآتي الشيطان ويدينه بما يبثه من هدي ووحي "وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين".(1)
وصفة التوبيخ لا تناسب من سمي بالمعزي، وقيل بأنه جاء إلى التلاميذ يعزيهم بفقد سيدهم ونبيهم.
ثم العزاء إنما يكون في المصائب، والمسيح كان يبشرهم بذهابه ومجيء الآتي بعده.
كما أن العزاء إنما يكون حين المصيبة وبعدها بقليل، وليس بعد عشرة أيام (موعد نزول الروح القدس على التلاميذ)، ثم لماذا لم يقدم المعزي القادم العزاء لأم المسيح، فقد كانت أولى به.
ثم لا يجوز للنصارى أن يعتبروا قتل المسيح على الصليب مصيبة تستوجب العزاء، إذ هو برأيهم سبب الخلاص والسعادة الأبدية للبشرية، فوقوعه فرحة ما بعدها فرحة، وإصرار النصارى على أن التلاميذ احتاجوا لعزاء الروح القدس يبطل عقيدة الفداء والخلاص.
ومن استعراض ما سبق ثبت بأن روح القدس ليس هو البارقليط، فكل صفات البارقليط صفات لنبي يأتي بعد عيسى، وهو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام، فالبارقليط " لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به "، وكذا الذي بشر به موسى " أجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به "، وهو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله { وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى - علمه شديد القوى } (النجم: 3 - 5).
بل كل ما ذكر عن البارقليط له شواهد في القرآن والسنة تقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب هذه النبوءة، إذ هو الشاهد للمسيح، وهو المخبر بالغيوب، الذي لا نبي بعده، وقد ارتضى الله دينه إلى قيام الساعة ديناً..
اعتراضات القس فندر وردود العلامة الهندي عليها
ويثير القس فندر في وجه المسلمين أسئلة يراها تمنع من صرف البارقليط إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أولها: أنه ورد في البارقليط أنه روح الحق ثلاث مرات، وفي مرة رابعة ورد أنه روح القدس(1) وهي كما يقول القس فندر ألفاظ مترادفة تدل على الروح القدس.
والعلامة رحمة الله الهندي في كتابه العظيم "إظهار الحق" يسلم بترادف هذه الألفاظ، ويؤكد أن لفظة (روح الله) دالة على الأنبياء أيضاً، كما جاء في رسالة يوحنا الأولى: "فلا تؤمنوا أيها الأحباء بكل روح من الأرواح، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا ؟ لأن كثيرين من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم " ( يوحنا (1) 4/1-2 )، فالأنبياء الصادقون هم روح الله، والأنبياء الكذبة هم روح الشيطان.
وبين يوحنا كيفية معرفة روح الحق من روح الضلال، أي معرفة الأنبياء الصادقين وتمييزهم عن الأنبياء الكذبة، فقال: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم" (يوحنا (1) 4/2 - 6).
ورسولنا هو روح الحق بدليل قول يوحنا، لأنه يعترف بالمسيح أنه رسول من عند الله، وأنه جسد، وأنه من الله كما سائر الناس هم من الله، أي أن الله خلقهم. وبولس هو روح الضلال الذي يعتبر المسيح إلهاً، وهو الموجود في العالم حينذاك.
ثانيها: أن الخطاب في إنجيل يوحنا توجه للحواريين كما في قوله " يعلمكم " و " أرسله إليكم".... وعليه فينبغي أن يوجد البارقليط في زمنهم.
ويمنع رحمة الله الهندي هذا الفهم، بل المراد: النصارى بعدهم. وأقامهم المسيح مقام التلاميذ، وهو أمر معهود في أسفار العهد الجديد، فقد جاء في متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع " أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء" (متى 26/64)، وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء.
ومثله قول المسيح: "وقال له: الحق الحق أقول لكم: من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" (يوحنا 1/51).
ثالثها: أن البارقليط لا يراه العالم ولا يعرفه، فقد جاء "لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم" بينما محمد - صلى الله عليه وسلم - قد عرفه الناس ورأوه.
ويرد العلامة رحمة الله الهندي بأن هذا ليس بشيء، لأن روح القدس عندهم هو الله أو روح الله، والعالم يعرف ربه أكثر من معرفته بمحمد، فهي لا تصدق على تأويلهم بحال.
ويرى رحمة الله الهندي أن المقصود بالنص هو أن العالم لا يعرف هذا النبي المعرفة الحقيقية (أي نبوته) أما أنتم واليهود فتعرفونه، لإخبار المسيح والأنبياء لكم عنه.
وأما سائر الناس فهم كما قال المسيح: " لأنهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون " (متى 13/13). (1)
وليس المقصود بقوله: " لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم" ليس مقصوداً الرؤية البصرية والمعرفة الحسية، بل المعرفة الإيمانية. ومثله ما جاء في يوحنا "أجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا، ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يوحنا 8/19) ومثله في الأناجيل كثير. يقول متى هنري في تفسيره لإنجيل يوحنا: إن كلمة (يرى) في النص اليوناني لا تفيد رؤية العين، بل رؤية البصيرة.
ولربما كان عدم معرفتهم بالمنتظر القادم أنه غريب وليس من اليهود " وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (يوحنا 7/27).
رابعها: جاء في وصف البارقليط أنه " مقيم عندكم وثابت فيكم"، فدل - حسب رأي القس فندر - على وجوده مع الحواريين، ولا يصدق هذا على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويرى رحمة الله الهندي أن النص في تراجم وطبعات أخرى: " مستقر معكم وسيكون فيكم"، وفي غيرها: " ماكث معكم ويكون فيكم ".
والمعنى في ذلك كله الاستقبال وليس الآنية، بمعنى أنه سيقيم عندكم أو يمكث عندكم. ذلك أن النص دل على ذلك، فهو يقول بعدم وجوده بينهم ذلك الوقت " قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى متى إذا كان تؤمنوا "، و " إن لم أنطلق لم يأتكم البارقليط ". وهو ما يقوله النصارى حين يؤمنون أن مجيئه وحلوله كان في يوم الخمسين.
ومثله أخبر حزقيال عن خروج يأجوج ومأجوج بصيغة الحاضر، وهم لم يخرجوا بعد فقال: "ها هو قد جاء وصار، يقول الرب: هذا هو اليوم الذي قلت عنه " (حزقيال 39/8)، ومثله في (يوحنا 5/25).
خامسها: جاء في كتاب الأعمال: " وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمد الماء، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير " (أعمال 1/4 - 5)، ويرى فندر أن هذا " يدل على أن بارقليط هو الروح النازل يوم الدار، لأن المراد بموعد الآب هو بارقليط ".
وفي رده يبين رحمة الله الهندي أن ما جاء في الأعمال وعد آخر لا علاقة له بالبارقليط الذي تحدث عنه يوحنا فحسب، فقد وعدوا بمجيء الروح القدس في وعد آخر، وتحقق الموعود بما ذكر لوقا في الأعمال. أما ما ذكره يوحنا عن مجيء البارقليط فلا صلة له بهذه المسألة.
كما اعترض آخرون من النصارى على انطباق هذه النبوءة على نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأن البارقليط سيرسله المسيح " ولكن إن ذهبت أرسله إليكم"، ومثله في قوله: "المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب"، في حين أن محمداً رسول الله لا المسيح.
وقد تغافل القائل عن قول الله: "المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب"، فهو رسول الآب، ونسبة الإرسال إلى المسيح مجازية غير حقيقية، ومثلها في قوله : " قال لها ملاك الرب: تكثيراً أكثر نسلك، فلا يعد من الكثرة " (التكوين 16/10)، والمكثِّر المبارك لنسل هاجر وغيرها هو الله، وليس ملاكه، لكن لما كان الملاك هو واسطة الإخبار نسب الفعل إلى نفسه.
ونحو هذا الصنيع وقع في سفر الملوك، فقد نسب النبي إيليا إلى نفسه العقوبة الإلهية التي سيعاقب بها الربُ الملكَ اخآب، فقد " قال اخآب لايليا: هل وجدتني يا عدوي؟ فقال: قد وجدتك، لأنك قد بعتَ نفسك لعمل الشر في عيني الرب، هانذا أجلب عليك شراً، وأبيد نسلك، وأقطع لاخآب كل بائل بحائط ومحجوز ومطلق في إسرائيل" (الملوك (1) 21/20-21)، فقد نسب النبي إيليا إلى نفسه ما هو في الحقيقة صنيع الله وعقوبته، وهذه النسبة غير حقيقية، ولكنه استحقها لكونه المبلِغ عن الله لهذه العقوبة.
ومثله سواء بسواء ما قاله المسيح في نبوءته عن البارقليط.
وبذلك فإننا نرى في البارقليط النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم { وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } (الصف: 6).