هل ما جاء في إشعيا نبوءة عن صلب المسيح؟
لكن النصارى يرون أن ثمة نبوءة في غير المزامير قد وردت في صلب المسيح، ألا وهي ما جاء في إشعيا 52 و 53 وفيه: « هو ذا عبدي يعقل، ويتعالى، ويرتقي ويتسامى جداً، كما اندهش منه كثيرون، كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم، هكذا ينضح أمماً كثيرين، من أجله يسد ملوكُُ أفواههم، لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه.
من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب، نبت قدامه كفرخ، وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجو هنا، محتقر فلم نعتد به.
لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصلوباً، مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبجبره شفينا، كلنا كغنم ضللنا، مِلْنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه.
من الضغطة ومن الدينونة أخذ، وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش.
أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، ان جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنحج، من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها، لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء، يقسم غنيمة من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمةٍ، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين » إشعيا 52/13 - 53/12 .
ويربط النصارى بينه وبين ما جاء في مرقس « فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة » مرقس 15/28 ومقصوده كما لا يخفى ما جاء في إشعيا « سكب للموت نفسه، وأحصى مع أثمة » ومثله في أعمال الرسل أعمال 8/22 - 23 .
والنص ولا ريب قد تعرض للكثير من التلاعب والتحوير، وتجزم بهذا التلاعب عندما تلحظ غموض عباراته، وحين تقارن نص إشعيا مع ما جاء في أعمال الرسل، وهو ينقل عنه، وفيه « وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه، فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه، هكذا لم يفتح فاه، في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض » أعمال 8/ 32- 33 .
لذا حق للمحققين أن يروه نصاً حور لينطبق على المسيح، ودليل ذلك أن فيلبس الحواري قرأ النص ولم يفهم منه أنه نبوءة عن المسيح، حتى أطلعه عليه خصي حبشي كان وزيراً لملك كنداكة ملك الحبشة، وبعد هذه القصة تنصر الرجل، وعمّده فيلبس، يقول لوقا: « فبادر إليه فيلبس وسمعه يقرأ النبي إشعياء فقال: ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟ فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد.وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه.
وأما فصل الكتاب الذي كان يقرأه فكان هذا: مثل شاة سيق إلى الذبح ومثل خروف صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه انتزع قضاؤه، وجيله من يخبر به، لأن حياته تنتزع من الأرض.
فأجاب الخصي فيلبس: وقال أطلب إليك: عن من يقول النبي هذا؟ عن نفسه أم عن واحد آخر؟ ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع...فعمده، ولما صعدا في الماء خطف روح الرب فيلبس، فلم يبصره الخصي أيضاً، وذهب في طريقه فرحاً، وأما فيلبس فوجد في أشدود» أعمال 8/26 -40 ، فالخصي هو الذي أوحى إلى فليبس ثم النصارى فكرة تنبؤ نص إشعيا بالمسيح.
والمسلمون لا يرون في هذا النص أي نبوءة عن المسيح، ويستغرب المسلمون ويستنكرون من الربط بين نص إشعيا وقصة الصلب في الأناجيل، فنص إشعيا يتحدث عبد، فيما يقول النصارى بألوهية المسيح، فكيف يجمعون بين عبوديته لله وألوهيته في وقت واحد.
وهذا العبد قبيح في منظره مخذول محتقر لا يعتد به، فهو ليس المسيح على أي حال « هو ذا عبدي... كان منظره كذا مفسدة أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم.. لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجو هنا، محتقر فلم نعتد به» .
والنص يتحدث عن الذي « لم يفتح فاه، كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه » .
بينما المسيح تكلم مراراً وتكراراً، فلقد قال لبيلاطس أثناء محاكمته: « أنت تقول: إني ملك، لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، كل من هو في الحق يسمع صوتي » يوحنا 18/37 وكان قد قال له قبل: « مملكتي ليست في هذا العالم، لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هذا » يوحنا 18/36 .
كما تكلم في المحاكمة لما لطمه أحد الخدم فأجابه المسيح: « إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا تضربني ؟ » يوحنا 18/22
كما تكلم قبلها طويلاً في البستان، وهو يناجي، طالباً من الله أن يعبر عنه هذه الكأس...
فإن أصر النصارى بعد ذلك على أن النبوءة تنطبق على المسيح، فقد قالوا إذن بأن المسيح تكلم وهو مغلق الفم !!!
كما يذكر النص شجاعة وتماسكاً لا تتناسب وصراخ المصلوب، وجزعه، وقنوطه، فالمسيح كشاة أمام جازيها صامتة، «وهكذا لم يفتح فاه » ثم إنه « أخذ من السجن والمحاكمة، ومن الذي يعلن إلى جيله أنه قد بتر في أرض الأحياء، بسبب تعديات شعبي كان مبتلاً » .
ويرى منصور حسين في الترجمة المتداولة لإشعيا ما يؤكد فكرته بأن المصلوب هو يهوذا، ويقارن هذه الترجمة مع النص الإنجليزي، للخروج من غموض النص العربي.
وفيه: « لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه » ، وفي النص الإنجليزي ما ترجمته: «ما لم يسمعوه اعتبروه » ، والفرق بين « فهموه » و « اعتبروه » واضح.
فكلمة « فهموه » تفيد علمهم ومعرفتهم وإدراكهم، بينما كلمة « اعتبروه » لا تفيد إلا تقرير الحكم، فكما أخبرت المزامير بنجاة المسيح قبل إشعيا بثلاثمائة سنة يخبر إشعيا بنجاته، لكنهم يرون صلبه كما يتبادر لذهنهم، فيروون ما لم يخبروا به، بل عكسه، ولذلك فهم اعتبروا: أن المصلوب هو المسيح.
وأما قوله « من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب » ،
فهو سؤال يفهم منه أن الخبر المقصود هو نجاة المسيح الذي لم يصدقه أحد، ويجيب النصُ - كما يرى الأستاذ منصور حسين - بأن الذي صدق بنجاة المسيح شخص- محتقر مخذول من الناس، رجل أوجاع، ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به - إنه الذي تحمل الأوجاع، والذي احتقر، وباء بإثمه وإثم المتآمرين معه، إنه يهوذا الخائن، الذي رأى عناية الله تحيط بالمسيح وهو يصعد وينجو فهو - مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا - فلقد تحمل يهوذا وزر المؤامرة - وضع عليه إثم جميعنا - ، لأنه التلميذ الخائن، وكان هؤلاء اليهود كالغنم الضالة - فكلهم كغنم ضلوا .
وقوله: « من أجل ذنب شعبي » يدل على أنه ليس المراد غفران الخطية، إذ لو أرادها لقال غفران ذنب جميع العالم.
وقد ظن الناس أنه قطع في أرض الأحياء، وأنه ضرب من أجل ذنبي، « وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضرب من أجل ذنبي » ، لكن الحقيقة غير ذلك، وفي النص الإنجليزي « من سيعلن لجيله ؟ » أي هذه الحقيقة الخافية ؛ إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويكمل النص واصفاً يهوذا في لحظة محاكمته « على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش » ولقد يعجب القارئ أن يقال مثل هذا في حق يهوذا، ولا عجب، فلقد كان يهوذا لحظة المحاكمة صادقاً حين قال: « من الآن فإنهم يرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة » ، وهو لم يعمل ظلماً بحق محاكميه الذين لو علموا حقيقة شخصيته لأفرجوا عنه.
لكن الرب جل وعلا سر بما صنع به « وأما الرب فسر بأن يسحجه بالحزن » ، وهل يسر لما فعل بالمصلوب لو كان هو المسيح؟ إنما سر بعاقبة مكر يهوذا، فتكامل نص إشعيا مع نبوءات المزامير.
ويرد إشكال في حديث النص عن فادي الخطيئة الغير والشافع فيهم « هو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين » ، ولكن أيا كان، فإن دلالة النص وهو في هذا الوضع يورد من الأسئلة والإشكالات على من قال بصلب المسيح أكثر مما يورد على من قال بنجاته وصلب يهوذا.
ويرى الأستاذ محمد الأفندي أن لا علاقة بين هذا الإصحاح في إشعيا، وبين حادثة الصلب، فالإصحاح يتحدث عن قصة بني إسرائيل، وذلهم في بابل بسبب معاصيهم ومعاصي سلفهم، فحاق بهم عقوبة الله التي عمّت صالحيهم وفجارهم، ويوضح ذلك في أن قوله « هو ذا عبدي.. كما اندهش منك كثيرون كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم » فالمقصود بالعبد شعب إسرائيل، فقد عُهد في التوراة إطلاق الفرد والمراد الشعب كما في إشعيا: « يقول الرب، خالقك يا يعقوب، وجابلك يا إسرائيل..... وإذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك، لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل، مخلصك، جعلت مصر فديتك » إشعيا 43/1 - 3 ومثله في إشعيا 41/8 .
فيصف إشعيا 52 و 53 غربة بني إسرائيل وذلتهم، ثم يتحدث عن عودة أبنائهم من أرض السبي «نبت قدامه كفرخ، وكعرق في أرض يابسة » فقد عادوا للأرض المقدسة، ونبتوا فيها، كما وصفهم إرميا النبي في مراثيه.
ولا يصح حمله على المسيح، لقوله: « لا صورة ولا جمال » بل الحديث عنهم، وقد تغيرت صورتهم بسبب الذل فكان الشعب « محتقر مخذول.. الرب وضع عليه إثم جميعنا » ويفسره قول إرميا وقد شاهد الأسر البابلي: « آباؤنا أخطؤوا، وليسوا بموجودين، ونحن نحمل آثامهم، عبيد حكموا علينا، ليس من يخلص من أيديهم، جلودنا اسودت من جري نيران الجوع » مراثي 5/7 - 10 .
وقوله: « ظلم » كقوله « ثم ظلمه آشور بلا سبب » إشعيا 52/4 ، وكقوله: « إن بني إسرائيل وبني يهوذا معاً مظلومون » ارميا 50/33
وأما قوله: « كشاة تساق إلى الذبح.... » فهو حديث عن ملك بابل، وقد ساق بني إسرائيل، كما تساق الشياه إلى الذبح، كما في إرميا 51/40 « أنزلهم كخراف للذبح، وككباش مع أعتدة » فمات أكثرهم جوعاً.
وقوله: « وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته » أي أن دفنهم في بابل كان مع الوثنيين، ولا يمكن حمله على المسيح المدفون وحده في بستان، في قبر جديد، لم يدفن فيه معه لا شرير ولاغني.
«فسَّر أن يسحقه بالحزن» وفي نسخة كاثوليكية: «رضي أن يسحقه بالعاهات، أن جعل نفسه ذبيحة إثم. » وفي الأصل العبري: « أراد الرب أن يضربه بالحزن، لأنه جعل نفسه آثماً. » ومثله في قول إشعيا لأورشليم: « اثنان هما ملاقياك، من يرثي لك الخراب، والانسحاق، والجوع، والسيف، بمن أعزيك، بنوك قد أعيوا، واضطجعوا في رأس كل زقاق » إشعيا 51/19
وقوله: « يرى نسلاً تطول أيامه » فهو إشارة لرجوعهم إلى وطنهم، بينا المسيح ليس له نسل.
وأما قوله: « عبدي البار بمعرفته يبرر كثيرون، وآثامهم هو يحملها » يتحدث كيف شمل البؤس بررة بني إسرائيل وعصاتهم، كما قال الله: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة » الأنفال : 125 وإكراماً للبررة من بني إسرائيل، طهرهم الله من ذنبهم، ورفع عنهم هذه العقوبة، كما في ارميا: « في تلك الأيام يطلب إثم إسرائيل فلا يكون، وخطية يهوذا فلا توجد، لأني أغفر لمن أبقيه » إرميا 50/20 فأسرهم وقد حملوا خطيئة آبائهم، ثم غفرت ذنوبهم.
وقوله: « هو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين » ، والترجمة الصحيحة يراها الأفندي: «وللعصاة يدعو » بالتوبة والهداية.
وينوه بتحريفهم في قولهم: « ضرب من أجل ذنب شعبي » ، وهي في الأصل العبري « ضربوا » فحرفوها لتنطبق على المسيح.
وقوله « أحصي مع أثمة » يحكى عن وجود بني إسرائيل مع الوثنيين في بابل، ولا يصح أن تصرف للمسيح، وأن الأثمة هما اللصان، إذ قد وعد أحدهما الفردوس، فكيف يوصف بعد ذلك بالآثم ؟!
وأقرب هذه الأقوال وأصحها، ما ذهب إليه الأفندي في أن الإصحاح يتحدث عن شعب إسرائيل، وسبيه، وذلته، ثم نجاته. ويدل عليه أن هذا هو فهم النص عند اليهود وهم أصحاب الكتاب.