كيفية نجاة المسيح من المؤامرة
وإذا كانت الأدلة قد شهدت للمسيح بالنجاة، وأن مؤامرة الأشرار لن تلحق به الأذى، فنجا المسيح من الموت على الصليب الذي أراده له أعداؤه.
فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: كيف نجا المسيح ؟
وكما أسلفنا فإن القرآن والسنة لا يذكران كيفية نجاة المسيح، وكل ما ذكره القرآن أن الله شبه عليهم غير المسيح، فأخذوه وهم ليس لهم به علم يقيني.
لذا نعود إلى قصة الأناجيل وهي تتحدث عن الصلب المزعوم، لنرى كيف نجا المسيح ؛ ولابد لنا هنا من قراءة ما بين السطور الإنجيلية، لتلمس الحقيقة التي يصرح الإنجيليون بخلافها.
وبداية نذكر أنه لا يرى المسلمون أي ضير في القول بالكثير من التفصيلات التي أوردتها الأناجيل، وإن كنا نشك في حصول بعضها، لكن نقبلها تنزلاً مع محاورينا من النصارى، ومنها:
1- أن المسيح خرج إلى البستان برفقة تلاميذه، وأنه أخبرهم بأنه سيتعرض لمؤامرة من أحد التلاميذ مع اليهود الذين يريدون صلبه.
2- أن المسيح دعا في تلك الليلة طويلاً، وبإلحاح كبير طالباً من الله أن يصرف عنه كأس الموت.
3- أن المسيح استسلم لقضاء الله وقدره، فقال: « ليس كما أريد أنه بل كما تريد أنت » متى 26/39 وقال: « فلتكن مشيئتك متى 26/41 .
4- المسيح يصلي، والتلاميذ نيام، ويحاول إيقاظهم مرة بعد مرة.
5- وصل يهوذا الأسخريوطي الخائن، ومعه الجند، يحملون مشاعل وسيوفاً وعصياً، للقبض على المسيح، وقد جعل يهوذا علامة للجند أن يقبل المسيح.
6- وصلت الجموع؛ فخرج إليهم المسيح، وقال: من تطلبون ؟ فأجابوه: يسوع الناصري. فقال المسيح » أنا هو : فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض « يوحنا 18/6 .
7- حاول بطرس الدفاع، لكنه كان أعجز من ذلك، فهرب وجميع التلاميذ.
8- اقتيد المأخوذ - وهو غير المسيح - للمحاكمة عند رئيس الكهنة، ثم بيلاطس، وبطرس يتابعه في بعض ذلك، وقد أنكره تلك الليلة ثلاث مرات.
9- في المحاكمة سأل رئيس الكهنة، واستحلف المأخوذ إن كان هو المسيح، فأجابه: » أنت قلت، وأيضاً أقول لكم: من الآن، تبصرون ابن الإنسان جالساً يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء « متى 26/64 .
10- حكمت المحكمة على المأخوذ بالقتل، واقتيد إلى بلاط بيلاطس الذي سأله: إن كان هو ملك اليهود، فأجابه: » أنت تقول « ثم لم يجبه بكلمة واحدة، حتى تعجب بيلاطس منه.
11- لم يجد الوالي للمأخوذ علة يستحق عليها القتل، فأراد أن يطلقه، لكن الجموع أصرت على صلبه، وإطلاق باراباس، فأعلن براءته من دم هذا البار، وأسلمه لهم.
12- اقتيد المأخوذ إلى موضع الصلب، وصلب بجوار لصين.
13- صرخ على الصليب، فسقوه خلاً، ثم أسلم الروح.
ويفترق المسلمون عن الأناجيل في مسألة مهمة، وهي من هو المأخوذ من ساحة القبض على المسيح؟ فيراه المسلمون يهوذا الأسخريوطي، التلميذ الخائن، ويلزمنا إقامة الدليل على ذلك، إذ هي موضع النزاع، وقد كنا قد أقمنا الأدلة على ذلك من سفر المزامير.
ولتصور القول بأن يهوذا هو المأخوذ، وأنه حصل التباس عند آخذيه، فإنا نتصور الجموع الكثيرة والتي تقارب الألف وهي تسير، تحمل المشاعل والسيوف والعصي، وتتكون من جنود وغوغاء يتقدمهم يهوذا.
ولما وصل الجمع إلى المسيح كان التلاميذ نياماً، وقد حاول المسيح إيقاظهم مراراً فلم يستطع، برغم أن الموقف كان صعباً، فقد كانت عيونهم ثقيلة، واقتربت الجموع من المسيح يتقدمهم يهوذا، والتلاميذ نيام » فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض « يوحنا 18/6 .
وهنا نتوقف ملياً، لنقرأ ما غفلت عن ذكره السطور.
فما فائدة سقوطهم على الأرض ؟ وما الذي أسقطهم ؟ وماذا أفاد المسيحَ سقوطهم، إذا كانوا سيقبضون عليه بعدها ؛ وَلم لَمْ يتكرر السقوط عندما أرادوا أخذه بعدها ؟
ولنحاول أكثر أن نتصور ما حدث في تلك اللحظة، فقد اقترب يهوذا لتقبيل المسيح كعلامة للجند على أنه المطلوب، وفي تلك اللحظة اقترب الجند. حملة المشاعل والسيوف. للقبض على المسيح، فتدخلت قدرة الله العظيم – كما ذكر يوحنا-، فسقطوا على الأرض، بعد أن رجعوا للوراء. ولك أن تتخيل ما حصل، من هرج، وتدافع، من جراء سقوط مقدمة هذه الجموع التي تحمل المشاعل، والتي هي فقط تنير لها ظلمة الليل البهيم.
بعد ذلك الاضطراب والفوضى قام الساقطون من الأرض وأفاقوا من ذهولهم لما حصل لهم، ورأوا يهوذا وحده مبهوتاً أصابه الذهول، وقد رأى المسيح يرفع للسماء، وقد ألقى الله عليه الكثير من شبه المسيح، ولكن من سيتوقع أن هذا المذهول هو يهوذا، ومن الذي يعرفه وقتذاك؟
فكانت لحظةُ وقوع الجند: لحظة الخلاص كما وصفتها المزامير » الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه …. هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا « مزمور 20/8 .
وفي مزمور آخر: » أما أنت فتبارك، قاموا وخزوا « مزمور 109/28 .
وفي مزمور آخر تسجل تلك اللحظة الخالدة: » حينئذ ترتد أعدائي إلى الوراء « مزمور 56/9 و » ليرتد إلى خلف، ويخجل المشتهون لي شراً « مزمور 70/2 .
» عندما اقترب إلي الأشرار ليأكلوا لحمي، ومضايقي وأعدائي عثروا وسقطواً « مزمور 27/2 وغيرها.
بعدها حُمل يهوذا إلى المحاكمة وإلى ديوان بيلاطس، والشك في حقيقة شخصه يلاحقه في كل هذه الخطوات، فقد شك فيه رئيس الكهنة، وكانت إجاباته لبيلاطس وهيرودس تنبئ عن الذهول الذي أصابه، وعن عجزه عن بيان الحقيقة، التي لن يقنع أحداً إن ذكرها، فكان يجيبهم: » أنت تقول « متى 27/11 .
ولما اجتمع في النهار مشيخة الشعب، ورؤساء الكهنة، » وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا. فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون: إني أنا هو «. يوحنا 22/66 - 70 .
ولا يفسر هذه الإجابات الغريبة، بل وتلك الأسئلة الغريبة من أناس كانوا يرون المسيح في كل يوم، لا يفسره إلا أن نقول بأن المأخوذ هو غير المسيح، وإن أشبهه، وهذا الشبه حير رؤساء الكهنة في حقيقة المأخوذ فحاولوا استجلاء الحقيقة بسؤال المأخوذ، فلم ينكر ولم يثبت.
وأما يهوذا فقد عرف أن لا فائدة من إنكاره، إذ لن يصدقه أحد، ولربما ولفرط ندمه قد استسلم لرداه، ورضي بعقوبة الله له، أن يصلب عن المسيح، لعله بذلك أن يفديه، لذلك تكرر سكوته.
وهذا الموقف ليس بعيداً عمن ذكرت الأناجيل أنه لفرط ندمه خنق نفسه، وانتحر.
لقد تحققت فيه نبوءات المزامير » وإذا حوكم فليخرج مذنباً... ووظيفته ليأخذها آخر « المزمور 109/6 - 8 ، لقد أتى ليخطف المسيح، فلم يستطع.. » حينئذ رددت الذي لم أخطفه « المزمور 69/4 .
وقد يشكل هنا أن متى ذكر أن يهوذا مات مخنوقاً انظر متى 27/2 - 5 ، ويكفي في دفعه أن نتذكر ما ذكره سفر أعمال الرسل عن موته حين سقوطه وخروج أحشائه. انظر أعمال 1/16 - 20 ، وسبب وقوع الإنجيليين في هذا التناقض اختفاء يهوذا، فاخترع كل من متى ولوقا نهاية ليهوذا تليق بجريمته، فهذا التناقض بين الروايتين الإنجيليتين، مشعر بوجود نهاية حقيقية، خفيت على الكاتبين ودفعتهما لاختلاق روايتيهما.
والقول بصلب يهوذا بدلاً عن المسيح قول قديم: فكما ذكره برنابا في إنجيله، ذكرته فرق مسيحية قديمة قبل الإسلام، منها: السيرنثيون والكربوكرانيون.
وقد يعترض معترض بذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد وقوع الجموع، فقد ذكر الإنجيليون أن بطرس حمل السيف، وضرب أذن العبد فأمره المسيح برد السيف، لأن من ضرب بالسيف يؤخذ به، فهرب بطرس والتلاميذ انظر يوحنا 18/10 - 19 وهذه القصة يجعلها يوحنا بعد حادثة تراجع الجند، ووقوعهم على الأرض.
ومثله ذكر يوحنا أيضاً بعد سقطتهم، أن المسيح سألهم: » من تريدون ؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو … ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه « يوحنا 18/7 - 12 .
كما قد يعترض معترض بذكر ما انفرد به يوحنا، وهو حضور أم المسيح إلى ساحة الصلب، فيقول: لا يصح أن يخفى عليها حقيقة المصلوب، وأن ليس ابنها.
لكن أمثال هذه النصوص التي لن يستطيع أحد أن يثبت عصمتها لتناقضها الذي بيناه، ولا تنهض في الرد على نبوءات المزامير والأناجيل، وإلحاقها بتناقضات الأناجيل وأخطائها أَوْلَى.
ولعلنا نتذكر أن القبض على يهوذا كان ليلاً، فيكتنفه ما يكتنف الظلام من ستر، وخفاؤه فيما بعد ذلك، بسبب ظروف محاكمته وصلبه، وقد رأينا منهم شكاً في شخصية المأخوذ، فدل ذلك كله على أن في شخصية المأخوذ ما أشكل عليهم، وهو ولا ريب يشكل على من رآه مصلوباً عرياناً. ثم يراه قد ألبس في محاكمة بيلاطس وهيرودس ملابس غريبة فتغير شكله، ثم لما صلب كان عرياناً، وصلب في بستان معزول، ولم يمكث على الصليب فترة طويلة....
يقول برنابا، وقد كشف له المسيح عن الحقيقة بعد هلاك يهوذا: » يا معلم: إذا كان الله رحيماً، فلماذا عذبنا بهذا المقدار بما جعلنا نعتقد أنك كنت ميتاً؟ ولقد بكتك أمك حتى أشرفت على الموت.. أجاب يسوع: … فلمّا كان الناس قد دعوني الله وابن الله على أني كنت بريئاً في العالم، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب، لكيلا تهزأ الشياطين بي في يوم الدينونة، وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله، الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله ^ برنابا 220/ 14-20 .
وقد كان، فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم بالحقيقة التي غابت عن النصارى طويلاً، وصدق الله وهو يقول « وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه وما قتلوه وما صلبوه ولـكن شبّه لهم وإنّ الّذين إختلفوا فيه لفي شكّ مّنه ما لهم به من علمٍ إلاّ إتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً * بل رّفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزاً حكيماً » النساء: 157-158 .