هل كان بولس رسولاً؟
بولس أشهر كتبة العهد الجديد، وأهم الإنجيليين على الإطلاق، فقد كتب أربع عشرة رسالة تقارب النصف من صفحات العهد الجديد، وفيها فقط تجد العديد من العقائد النصرانية، إنه مؤسس النصرانية وواضع عقائدها؟ وهو الوحيد الذي ادعى النبوة دون سائر الإنجيليين.
فمن هو؟ وكيف أصبح رسولاً؟ وما هي أهميته في الفكر النصراني؟
أهمية بولس في الفكر النصراني
…تقوم النصرانية المحرفة وعمادها الرئيس رسائل بولس، فقد كانت رسائله أول ما خط من سطور العهد الجديد، الذي جاء متناسقاً إلى حد ما مع هذه الرسائل، لا سيما إنجيل يوحنا، فيما رفضت الكنيسة النصرانية رسائل التلاميذ التي تتعارض مع نصرانية بولس التي طغت على النصرانية الأصلية التي نادى بها المسيح وتلاميذه من بعده.
و هذا الأثر الذي تركه بولس في النصرانية لا يغفل ولا ينكر، مما حد بالكاتب مايكل هارت في كتابه "الخالدون المائة" أن يجعل بولس أحد أهم رجال التاريخ أثراً، إذ وضعه في المرتبة السادسة فيما وضع المسيح في المرتبة الثالثة.
وقد برر هارت وجود النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في المرتبة الأولى، وتقدمه على المسيح - عليه السلام - الذي يعد المنتسبون لدينه الأكثر على وجه الأرض، فقال: "فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد، وإنما أقامها اثنان: المسيح والقديس بولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان.
فالمسيح قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظراتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني.
وأما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس"، ويقول هارت: "المسيح لم يبشر بشيء من هذا الذي قاله بولس الذي يعتبر المسئول الأول عن تأليه المسيح".
وقد خلت قائمة مايكل هارت من تلاميذ المسيح الذين غلبتهم دعوة بولس مؤسس المسيحية الحقيقي، بينما كان الامبرطور قسطنطين صاحب مجمع نيقية الذي تبنى رسمياً القول بألوهية المسيح (325م) في المرتبة الثامنة والعشرين.
ثم بدأ دعوته في دمشق، فحاول اليهود قتله، فهرب إلى أورشليم، فرحب به برنابا، وقدمه للتلاميذ الذين يصفه أعمال الرسل بأنهم "يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ" (أعمال 9/26).
ثم ذهب للدعوة في قيصرية (جنوب حيفا)، ثم سافر مع برنابا إلى آسيا الصغرى، ثم حضر مجمع أورشليم مع التلاميذ، ثم رجع إلى أنطاكيا، واختلف فيها مع برنابا بسبب (زعمته الأناجيل) وهو إصراره على اصطحاب مرقس معهما في رحلتهما التبشيرية، وعندها افترقا.
و استمر بولس يدعو إلى المسيحية في أماكن عدة من أوربا سجن خلالها مرتين، إحداهما في روما سنة 64م، ثم ثانيةً عام 67، وقتل عام 68م.
وتذكر بعض المصادر أنه أسر مرة واحدة عام 64م وفيها مات.
ثانياً : بعض الملامح في شخصية بولس كما وردت في رسائله
ولا بد من سبر هذه الشخصية الهامة في تاريخ المسيحية بقراءة الرسائل المنسوبة إليه أو ما جاء عنه في سفر أعمال الرسل.
وعند قيامنا بهذا السبر سنجد ملاحظات هامة.
…أ. تناقضات قصة الرؤية والنبوة المزعومة
زعم بولس أنه لقي المسيح بعد ثلاث سنوات من رفعه، حين كان متجهاً إلى دمشق، لكن عند التحقيق في قصة رؤية بولس للمسيح يتبين أنها إحدى كذبات بولس وأوهامه، ودليل لذلك يتضح بالمقارنة بين روايات القصة في العهد الجديد، حيث وردت القصة ثلاث مرات: أولاها في أعمال الرسل (9/3-22)، من رواية لوقا أو كاتب سفر الأعمال، والثانية من كلام بولس في خطبته أمام الشعب (انظر أعمال 22/6-11)، والثالثة أيضاً من رواية بولس أمام الملك أغريباس (انظر أعمال 26/12-18)، كما أشار بولس للقصة في مواضع متعددة في رسائله.
…و لدى دراسة القصة في مواضعها الثلاث يتبين تناقضها في مواضع:
- جاء في الرواية الأولى (أعمال 9) "وأما الرجال المسافرون معه، فوقفوا صامتين يسمعون الصوت، ولا ينظرون أحداً" (أعمال 9/7)، بينما جاء في الرواية الثانية (أعمال 22): "الذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني" (أعمال 22/9)، فهل سمع المسافرون الصوت ؟ أم لم يسمعوه؟.
2- جاء في الرواية الأولى والثانية أن المسيح طلب من بولس أن يذهب إلى دمشق حيث سيخبَر هناك بالتعليمات: "قال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك: ماذا ينبغي أن تفعل" (أعمال 9/6)، وفي الثانية: " قلت ماذا أفعل يا رب؟ فقال لي الرب: قم واذهب إلى دمشق وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل" (أعمال 22/10).
بينما يذكر بولس في الرواية الثالثة (أعمال 26) أن المسيح أخبره بتعليماته بنفسه، فقد قال له: "قم وقف على رجليك، لأني لهذا ظهرت لك، لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سأظهر لك به، منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم…" (أعمال 26/16-18).
3- جاء في الرواية الثانية أن المسافرين مع بولس "نظروا النور وارتعبوا" (أعمال 22/9)، لكنه في الرواية الأولى يقول: "ولا ينظرون أحداً" (أعمال 9/7).
4- جاء في الرواية الأولى والثانية أن بولس "وحده سقط على الأرض" (أعمال 9/4)، بينما المسافرون وقفوا، وفي الرواية الثالثة أن الجميع سقطوا، فقد جاء فيها "سقطنا جميعاً على الأرض" (أعمال 26/14).
5- جاء في الرواية الأولى "أن نوراً أبرق حوله من السماء" (أعمال 9/3)، ومثله في الرواية الثانية (انظر أعمال 22/6)، غير أن الرواية الثالثة تقول: "أبرق حولي وحول الذاهبين معي" (أعمال 26/13).
…فحدث بهذه الأهمية في تاريخ بولس ثم النصرانية لا يجوز أن تقع فيه مثل هذه الاختلافات، يقول العلامة أحمد عبد الوهاب: "إن تقديم شهادتين مثل هاتين (الرواية الأولى والثالثة) أمام محكمة ابتدائية في أي قضية، ولتكن حادثة بسيطة من حوادث السير على الطرق لكفيل برفضهما معاً، فما بالنا إذا كانت القضية تتعلق بعقيدة يتوقف عليها المصير الأبدي للملايين من البشر" (1)، إذ بعد هذه الحادثة أصبح شاول الرسول بولس مؤسس المسيحية الحقيقي.
لكن إذا أردنا تحليل الهدف الذي جعل بولس يختلق هذه القصة فإنا نقول: يبدو أن بولس اندفع للنصرانية بسبب يأسه من هزيمة أتباع المسيح، فقد رآهم يثبتون على الحق رغم فنون العذاب الذي صبه عليهم، وهذا الشعور واضح في قول بولس أن المسيح قال له: "صعب عليك أن ترفس مناخس" (أعمال 26/14).
و يُستغرب هنا كيف ينقل شخص من الكفر والعداوة إلى القديسية والرسالة من غير أن يمر حتى بمرحلة الإيمان، فمن الممكن تصديق التحول من فرط العداوة إلى الإيمان، أما إلى النبوة والرسالة من غير إعداد وتهيئة فلا، ومن المعلوم أن أحداً من الأنبياء لم ينشأ على الكفر، فهم معصومون من ذلك.
ولنا أن نتساءل كيف لبولس أن يجزم بأن من رآه في السماء وكلمه كان المسيح وليس غيره، إذ هو لم يلق المسيح طوال حياته.
ب. نفاقه وكذبه
و من الأمور التي وقف عليها المحققون في شخصية بولس تلونه ونفاقه واحترافه للكذب في سبيل الوصول لغايته.
فهو يهودي فريسي ابن فريسي (انظر أعمال 23/6)، لكنه عندما خاف من الجلد قال: "أيجوز لكم أن تجلدوا إنساناً رومانياً" (أعمال 22/25).
وبولس يستبيح الكذب والتلون للوصول إلى غايته فيقول: "صرت لليهود كيهودي … وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس … وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس … صرت للكل كل شيء" (كورنثوس (1) 9 /20-21).
ورغم أن بولس لم يلق المسيح فإنه يعتبر نفسه في مرتبة التلاميذ، لا بل يفوقهم "الإنجيل الذي بشرت به، إنه ليس بحسب إنسان، لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح…لم استشر لحماً ولا دماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية (شمال جزيرة العرب) ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس" (غلاطية 1/11-18).
ويؤكد بولس على تميزه عن سائر التلاميذ وانفراده عنهم، و يصفهم بالإخوة "الكذبة المدخلين خفية، الذين دخلوا اختلاساً ... الذين لم نذعن لهم بالخضوع ولا ساعة، فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا علي بشيء، بل على العكس إذ رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة، كما بطرس على إنجيل الختان" (غلاطية 2/4-7).
و هكذا يؤكد بولس بأن ما يحمله في تبشيره لم يتلقاه عن تلاميذ المسيح، بل هو من الله مباشرة.
اعترافات نصرانية بابتداع بولس لما قدمه
و يتساءل المحققون لماذا لم يذهب بولس بعد تنصره مباشرة إلى التلاميذ ليتلقى عنهم دين المسيح؟ بل ذهب إلى العربية ومكث بعيداً عن التلاميذ ثلاث سنين، ثم لقي اثنين منهم فقط لمدة خمسة عشر يوماً. (انظر غلاطية 1/18-19).
تقول دائرة المعارف البريطانية في الإجابة عن هذا السؤال: "إن ارتحاله إليها كان لحاجته إلى جو هادئ صامت يتمكن فيه من تفكير في موقفه الجديد، وإن القضية الأساس عنده هي تفسير الشريعة حسب تجاربه الحديثة".
و يقول المؤرخ جامس كينون في كتابه "من المسيح إلى قسطنطين": "إنه ارتحل بعد تحوله الفكري إلى العربية، وكان الغرض المنشود من وراء ذلك - كما يبدو من التبشير- أن يدرس مضمونات عقيدته الجديدة، ثم ذهب بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى أورشليم حتى يجتمع ببطرس ويعقوب".
فإن هذا القول من بولس يتطابق مع ما جاء به من إلغائه الناموس واحتقاره ووصفه له بالعتق والشيخوخة، ومثل هذا الموقف لا يكون من الأنبياء والرسل الذي تأتي دعوتهم لتؤكد على طاعة الله وتدعو إلى السير وفق شريعته، يقول(1): " فإنه يصير إبطال الوصية السابقة ( التوراة وشرائعها المختصة بالكهنوت اللاوي) من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله " ( عبرانيين 7/18 - 19).
ويقول مبرراً إلغاء نظام الكهنوت التوراتي: " فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ " ( عبرانيين 8/7 ).
ويقول عن الناموس أيضاً: " وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال " ( عبرانيين 8/13 ).
ويحكي بولس عن نفسه وضعفه أمام الشهوات بما لا يليق بأحوال الأنبياء، فيقول: "لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريد، بل ما أبغضه فإياه أفعل..لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي، ويحي أنا الإنسان الشقي" (رومية 7/15-24).
وأما المعجزات المذكورة له في الرسائل (أعمال 14/3) (انظر قصة شفائه للمقعد في أعمال 14/8-11)، وقصة إحيائه أفتيخوس في أعمال 20/9-12) فلا تصلح دليلاً على نبوته لأن المسيح أخبر بمقدم الكذبة المضلين الذين يصنعون العجائب ، فقال محذراً من الاغترار بمعجزاتهم: "انظروا لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح، ويضلون كثيرين … ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلون كثيرين ... سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب، يضلون لو أمكن المختارين أيضاً" (متى 24/4-25)، فقد يكون بولس أحد هؤلاء الكذابين الذين يعطون الآيات والعجائب، التي تضل حتى المختارين من التلاميذ.
كما أن الأعاجيب - وكما سبق - لا تصلح أكثر من دليل على الإيمان فحسب، إذ كل مؤمن - حسب الإنجيل - يستطيع أن يأتي بإحياء الموتى وشفاء المرضى، فقد نقل متى عن المسيح قوله: "فالحق الحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" (متى 17/20).
وقال: "الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها" (يوحنا 14/12).
ويقول يوحنا محذراً من الأنبياء الكذبة: "قد صار الآن أضداد المسيح، منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا ... من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو ضد المسيح ... احذروا الذين يضلونكم" (يوحنا (1) 2/22).
وقد حذر بطرس أيضاً فقال: "كان أيضاً في الشعب أنبياء كذبة، كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة، الذين يدسون بدع هلاك ..." (بطرس (2) 2/1-3).
وهكذا كما قال المسيح عن هؤلاء المبطلين : "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7/5-23)، فقد كانت ثمار بولس بدع الهلاك التي أدخلها في المسيحية: ألوهية المسيح، الصلب والفداء، عالمية النصرانية، إلغاء الشريعة.
نبوءة المسيح عن بولس
ثم يسجل بولس في رسائله آراء تلاميذ المسيح والمسيحيين في مبادئه الجديدة ودعوته فيقول: "جميع الذين في آسيا ارتدوا عني" (تيموثاوس (2) 1/15)، وقد انفض عنه الجميع، لذا يستنجد بتيموثاوس فيقول: "بادر أن تجيء إلي سريعاً، لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر، وذهب إلى تسالونيكي ... لوقا وحده معي، اسكندر النحاس أظهر لي شروراً كثيرة، ليجازه الرب حسب أعماله، فاحتفظ منه أنت أيضاً، لأنه قاوم أقوالنا جداً، في اجتماعي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني" (تيموثاوس (2) 4/9-16)، "لما خرجت من مكدونية لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ" (فيلبي 4/15).
ويحذر بولس أنصاره من التلاميذ فيقول: "كونوا متمثلين بي ... لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صلب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطونهم، ومجدهم في خزيهم..." (فيلبي 3/17-19) لقد رفض كثيرون دعواه صلب المسيح، فكان عاقبتهم اتهامات بولس لهم بالغواية وسلوك طريق الهلاك .
…وفي أنحاء متفرقة من رسائله يتحدث عن أولئك الرافضين لدعوته من غير أن يسميهم، فيقول في بعض ما تمتلئ به رسائله موصياً تيموثاوس: "طلبت إليك أن تمكث في أفسس، إذ كنت أنا ذاهباً إلى مكدونية، لكي توصي قوماً أن لا يعلموا تعليماً آخر، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حد لها، تسبب مباحث دون بنيان الله في الإيمان" (تيموثاوس (1) 1/3-5).
بولس أشهر كتبة العهد الجديد، وأهم الإنجيليين على الإطلاق، فقد كتب أربع عشرة رسالة تقارب النصف من صفحات العهد الجديد، وفيها فقط تجد العديد من العقائد النصرانية، إنه مؤسس النصرانية وواضع عقائدها؟ وهو الوحيد الذي ادعى النبوة دون سائر الإنجيليين.
فمن هو؟ وكيف أصبح رسولاً؟ وما هي أهميته في الفكر النصراني؟
أهمية بولس في الفكر النصراني
…تقوم النصرانية المحرفة وعمادها الرئيس رسائل بولس، فقد كانت رسائله أول ما خط من سطور العهد الجديد، الذي جاء متناسقاً إلى حد ما مع هذه الرسائل، لا سيما إنجيل يوحنا، فيما رفضت الكنيسة النصرانية رسائل التلاميذ التي تتعارض مع نصرانية بولس التي طغت على النصرانية الأصلية التي نادى بها المسيح وتلاميذه من بعده.
و هذا الأثر الذي تركه بولس في النصرانية لا يغفل ولا ينكر، مما حد بالكاتب مايكل هارت في كتابه "الخالدون المائة" أن يجعل بولس أحد أهم رجال التاريخ أثراً، إذ وضعه في المرتبة السادسة فيما وضع المسيح في المرتبة الثالثة.
وقد برر هارت وجود النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في المرتبة الأولى، وتقدمه على المسيح - عليه السلام - الذي يعد المنتسبون لدينه الأكثر على وجه الأرض، فقال: "فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد، وإنما أقامها اثنان: المسيح والقديس بولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان.
فالمسيح قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظراتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني.
وأما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس"، ويقول هارت: "المسيح لم يبشر بشيء من هذا الذي قاله بولس الذي يعتبر المسئول الأول عن تأليه المسيح".
وقد خلت قائمة مايكل هارت من تلاميذ المسيح الذين غلبتهم دعوة بولس مؤسس المسيحية الحقيقي، بينما كان الامبرطور قسطنطين صاحب مجمع نيقية الذي تبنى رسمياً القول بألوهية المسيح (325م) في المرتبة الثامنة والعشرين.
ثم بدأ دعوته في دمشق، فحاول اليهود قتله، فهرب إلى أورشليم، فرحب به برنابا، وقدمه للتلاميذ الذين يصفه أعمال الرسل بأنهم "يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ" (أعمال 9/26).
ثم ذهب للدعوة في قيصرية (جنوب حيفا)، ثم سافر مع برنابا إلى آسيا الصغرى، ثم حضر مجمع أورشليم مع التلاميذ، ثم رجع إلى أنطاكيا، واختلف فيها مع برنابا بسبب (زعمته الأناجيل) وهو إصراره على اصطحاب مرقس معهما في رحلتهما التبشيرية، وعندها افترقا.
و استمر بولس يدعو إلى المسيحية في أماكن عدة من أوربا سجن خلالها مرتين، إحداهما في روما سنة 64م، ثم ثانيةً عام 67، وقتل عام 68م.
وتذكر بعض المصادر أنه أسر مرة واحدة عام 64م وفيها مات.
ثانياً : بعض الملامح في شخصية بولس كما وردت في رسائله
ولا بد من سبر هذه الشخصية الهامة في تاريخ المسيحية بقراءة الرسائل المنسوبة إليه أو ما جاء عنه في سفر أعمال الرسل.
وعند قيامنا بهذا السبر سنجد ملاحظات هامة.
…أ. تناقضات قصة الرؤية والنبوة المزعومة
زعم بولس أنه لقي المسيح بعد ثلاث سنوات من رفعه، حين كان متجهاً إلى دمشق، لكن عند التحقيق في قصة رؤية بولس للمسيح يتبين أنها إحدى كذبات بولس وأوهامه، ودليل لذلك يتضح بالمقارنة بين روايات القصة في العهد الجديد، حيث وردت القصة ثلاث مرات: أولاها في أعمال الرسل (9/3-22)، من رواية لوقا أو كاتب سفر الأعمال، والثانية من كلام بولس في خطبته أمام الشعب (انظر أعمال 22/6-11)، والثالثة أيضاً من رواية بولس أمام الملك أغريباس (انظر أعمال 26/12-18)، كما أشار بولس للقصة في مواضع متعددة في رسائله.
…و لدى دراسة القصة في مواضعها الثلاث يتبين تناقضها في مواضع:
- جاء في الرواية الأولى (أعمال 9) "وأما الرجال المسافرون معه، فوقفوا صامتين يسمعون الصوت، ولا ينظرون أحداً" (أعمال 9/7)، بينما جاء في الرواية الثانية (أعمال 22): "الذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا، ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني" (أعمال 22/9)، فهل سمع المسافرون الصوت ؟ أم لم يسمعوه؟.
2- جاء في الرواية الأولى والثانية أن المسيح طلب من بولس أن يذهب إلى دمشق حيث سيخبَر هناك بالتعليمات: "قال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك: ماذا ينبغي أن تفعل" (أعمال 9/6)، وفي الثانية: " قلت ماذا أفعل يا رب؟ فقال لي الرب: قم واذهب إلى دمشق وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل" (أعمال 22/10).
بينما يذكر بولس في الرواية الثالثة (أعمال 26) أن المسيح أخبره بتعليماته بنفسه، فقد قال له: "قم وقف على رجليك، لأني لهذا ظهرت لك، لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سأظهر لك به، منقذاً إياك من الشعب ومن الأمم الذين أنا الآن أرسلك إليهم…" (أعمال 26/16-18).
3- جاء في الرواية الثانية أن المسافرين مع بولس "نظروا النور وارتعبوا" (أعمال 22/9)، لكنه في الرواية الأولى يقول: "ولا ينظرون أحداً" (أعمال 9/7).
4- جاء في الرواية الأولى والثانية أن بولس "وحده سقط على الأرض" (أعمال 9/4)، بينما المسافرون وقفوا، وفي الرواية الثالثة أن الجميع سقطوا، فقد جاء فيها "سقطنا جميعاً على الأرض" (أعمال 26/14).
5- جاء في الرواية الأولى "أن نوراً أبرق حوله من السماء" (أعمال 9/3)، ومثله في الرواية الثانية (انظر أعمال 22/6)، غير أن الرواية الثالثة تقول: "أبرق حولي وحول الذاهبين معي" (أعمال 26/13).
…فحدث بهذه الأهمية في تاريخ بولس ثم النصرانية لا يجوز أن تقع فيه مثل هذه الاختلافات، يقول العلامة أحمد عبد الوهاب: "إن تقديم شهادتين مثل هاتين (الرواية الأولى والثالثة) أمام محكمة ابتدائية في أي قضية، ولتكن حادثة بسيطة من حوادث السير على الطرق لكفيل برفضهما معاً، فما بالنا إذا كانت القضية تتعلق بعقيدة يتوقف عليها المصير الأبدي للملايين من البشر" (1)، إذ بعد هذه الحادثة أصبح شاول الرسول بولس مؤسس المسيحية الحقيقي.
لكن إذا أردنا تحليل الهدف الذي جعل بولس يختلق هذه القصة فإنا نقول: يبدو أن بولس اندفع للنصرانية بسبب يأسه من هزيمة أتباع المسيح، فقد رآهم يثبتون على الحق رغم فنون العذاب الذي صبه عليهم، وهذا الشعور واضح في قول بولس أن المسيح قال له: "صعب عليك أن ترفس مناخس" (أعمال 26/14).
و يُستغرب هنا كيف ينقل شخص من الكفر والعداوة إلى القديسية والرسالة من غير أن يمر حتى بمرحلة الإيمان، فمن الممكن تصديق التحول من فرط العداوة إلى الإيمان، أما إلى النبوة والرسالة من غير إعداد وتهيئة فلا، ومن المعلوم أن أحداً من الأنبياء لم ينشأ على الكفر، فهم معصومون من ذلك.
ولنا أن نتساءل كيف لبولس أن يجزم بأن من رآه في السماء وكلمه كان المسيح وليس غيره، إذ هو لم يلق المسيح طوال حياته.
ب. نفاقه وكذبه
و من الأمور التي وقف عليها المحققون في شخصية بولس تلونه ونفاقه واحترافه للكذب في سبيل الوصول لغايته.
فهو يهودي فريسي ابن فريسي (انظر أعمال 23/6)، لكنه عندما خاف من الجلد قال: "أيجوز لكم أن تجلدوا إنساناً رومانياً" (أعمال 22/25).
وبولس يستبيح الكذب والتلون للوصول إلى غايته فيقول: "صرت لليهود كيهودي … وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس … وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس … صرت للكل كل شيء" (كورنثوس (1) 9 /20-21).
ورغم أن بولس لم يلق المسيح فإنه يعتبر نفسه في مرتبة التلاميذ، لا بل يفوقهم "الإنجيل الذي بشرت به، إنه ليس بحسب إنسان، لأني لم أقبله من عند إنسان ولا علمته، بل بإعلان يسوع المسيح…لم استشر لحماً ولا دماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية (شمال جزيرة العرب) ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس" (غلاطية 1/11-18).
ويؤكد بولس على تميزه عن سائر التلاميذ وانفراده عنهم، و يصفهم بالإخوة "الكذبة المدخلين خفية، الذين دخلوا اختلاساً ... الذين لم نذعن لهم بالخضوع ولا ساعة، فإن هؤلاء المعتبرين لم يشيروا علي بشيء، بل على العكس إذ رأوا أني أؤتمنت على إنجيل الغرلة، كما بطرس على إنجيل الختان" (غلاطية 2/4-7).
و هكذا يؤكد بولس بأن ما يحمله في تبشيره لم يتلقاه عن تلاميذ المسيح، بل هو من الله مباشرة.
اعترافات نصرانية بابتداع بولس لما قدمه
و يتساءل المحققون لماذا لم يذهب بولس بعد تنصره مباشرة إلى التلاميذ ليتلقى عنهم دين المسيح؟ بل ذهب إلى العربية ومكث بعيداً عن التلاميذ ثلاث سنين، ثم لقي اثنين منهم فقط لمدة خمسة عشر يوماً. (انظر غلاطية 1/18-19).
تقول دائرة المعارف البريطانية في الإجابة عن هذا السؤال: "إن ارتحاله إليها كان لحاجته إلى جو هادئ صامت يتمكن فيه من تفكير في موقفه الجديد، وإن القضية الأساس عنده هي تفسير الشريعة حسب تجاربه الحديثة".
و يقول المؤرخ جامس كينون في كتابه "من المسيح إلى قسطنطين": "إنه ارتحل بعد تحوله الفكري إلى العربية، وكان الغرض المنشود من وراء ذلك - كما يبدو من التبشير- أن يدرس مضمونات عقيدته الجديدة، ثم ذهب بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى أورشليم حتى يجتمع ببطرس ويعقوب".
فإن هذا القول من بولس يتطابق مع ما جاء به من إلغائه الناموس واحتقاره ووصفه له بالعتق والشيخوخة، ومثل هذا الموقف لا يكون من الأنبياء والرسل الذي تأتي دعوتهم لتؤكد على طاعة الله وتدعو إلى السير وفق شريعته، يقول(1): " فإنه يصير إبطال الوصية السابقة ( التوراة وشرائعها المختصة بالكهنوت اللاوي) من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله " ( عبرانيين 7/18 - 19).
ويقول مبرراً إلغاء نظام الكهنوت التوراتي: " فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طُلب موضع لثانٍ " ( عبرانيين 8/7 ).
ويقول عن الناموس أيضاً: " وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال " ( عبرانيين 8/13 ).
ويحكي بولس عن نفسه وضعفه أمام الشهوات بما لا يليق بأحوال الأنبياء، فيقول: "لست أعرف ما أنا أفعله، إذ لست أفعل ما أريد، بل ما أبغضه فإياه أفعل..لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي، ويحي أنا الإنسان الشقي" (رومية 7/15-24).
وأما المعجزات المذكورة له في الرسائل (أعمال 14/3) (انظر قصة شفائه للمقعد في أعمال 14/8-11)، وقصة إحيائه أفتيخوس في أعمال 20/9-12) فلا تصلح دليلاً على نبوته لأن المسيح أخبر بمقدم الكذبة المضلين الذين يصنعون العجائب ، فقال محذراً من الاغترار بمعجزاتهم: "انظروا لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح، ويضلون كثيرين … ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلون كثيرين ... سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب، يضلون لو أمكن المختارين أيضاً" (متى 24/4-25)، فقد يكون بولس أحد هؤلاء الكذابين الذين يعطون الآيات والعجائب، التي تضل حتى المختارين من التلاميذ.
كما أن الأعاجيب - وكما سبق - لا تصلح أكثر من دليل على الإيمان فحسب، إذ كل مؤمن - حسب الإنجيل - يستطيع أن يأتي بإحياء الموتى وشفاء المرضى، فقد نقل متى عن المسيح قوله: "فالحق الحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" (متى 17/20).
وقال: "الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها" (يوحنا 14/12).
ويقول يوحنا محذراً من الأنبياء الكذبة: "قد صار الآن أضداد المسيح، منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا ... من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو ضد المسيح ... احذروا الذين يضلونكم" (يوحنا (1) 2/22).
وقد حذر بطرس أيضاً فقال: "كان أيضاً في الشعب أنبياء كذبة، كما سيكون فيكم أيضاً معلمون كذبة، الذين يدسون بدع هلاك ..." (بطرس (2) 2/1-3).
وهكذا كما قال المسيح عن هؤلاء المبطلين : "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7/5-23)، فقد كانت ثمار بولس بدع الهلاك التي أدخلها في المسيحية: ألوهية المسيح، الصلب والفداء، عالمية النصرانية، إلغاء الشريعة.
نبوءة المسيح عن بولس
ثم يسجل بولس في رسائله آراء تلاميذ المسيح والمسيحيين في مبادئه الجديدة ودعوته فيقول: "جميع الذين في آسيا ارتدوا عني" (تيموثاوس (2) 1/15)، وقد انفض عنه الجميع، لذا يستنجد بتيموثاوس فيقول: "بادر أن تجيء إلي سريعاً، لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر، وذهب إلى تسالونيكي ... لوقا وحده معي، اسكندر النحاس أظهر لي شروراً كثيرة، ليجازه الرب حسب أعماله، فاحتفظ منه أنت أيضاً، لأنه قاوم أقوالنا جداً، في اجتماعي الأول لم يحضر أحد معي، بل الجميع تركوني" (تيموثاوس (2) 4/9-16)، "لما خرجت من مكدونية لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ" (فيلبي 4/15).
ويحذر بولس أنصاره من التلاميذ فيقول: "كونوا متمثلين بي ... لأن كثيرين يسيرون ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صلب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطونهم، ومجدهم في خزيهم..." (فيلبي 3/17-19) لقد رفض كثيرون دعواه صلب المسيح، فكان عاقبتهم اتهامات بولس لهم بالغواية وسلوك طريق الهلاك .
…وفي أنحاء متفرقة من رسائله يتحدث عن أولئك الرافضين لدعوته من غير أن يسميهم، فيقول في بعض ما تمتلئ به رسائله موصياً تيموثاوس: "طلبت إليك أن تمكث في أفسس، إذ كنت أنا ذاهباً إلى مكدونية، لكي توصي قوماً أن لا يعلموا تعليماً آخر، ولا يصغوا إلى خرافات وأنساب لا حد لها، تسبب مباحث دون بنيان الله في الإيمان" (تيموثاوس (1) 1/3-5).