العفو والغفران للمذنبين
ثم إنه ثمة مخرج آخر للجمع بين سنة الله في عقاب الظالمين وعفوه عنهم، ألا وهو سنته في العفو عنهم، فهو لا يتناقض مع العدل، إذ لن يسأل أحد ربه لماذا عفا عمن عفا عنه من المسيئين ؟
وقبل أن نتحدث عن العفو نلاحظ أن لمصطلح العدل عند النصارى مفهوم خاطئ، فالعدل هو عدم نقص شيء من أجر المحسنين، وعدم الزيادة في عقاب المسيء عما يستحق، فهو توفية الناس حقهم بلا نقص في الأجر، ولا زيادة في العقاب.
وعليه فإخلاف الوعيد لا يتعارض مع العدل، بل هو كرم الله الذي منحه للمسيئين بعفوه وغفرانه.
والعفو من الصفات الإلهية التي اتصف بها الرب وطلبها في عباده، وهو أولى بها لما فيها من كمال وحُسن، وقد عفا عن بني إسرائيل «رضيت يا رب على أرضك. أرجعت سبي يعقوب. غفرت إثم شعبك. سترت كل خطيتهم. سلاه حجزت كل رجزك.رجعت عن حمو غضبك» . مزمور 85/1-3 .
ويقول بولس: « طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية» رومية 4/7-8 .
وقد علم المسيح تلاميذه خلق العفو، وضرب لهم مثلاً قصة العبد المديون والمدين انظر متى 18/23 - 34 .
وكان بطرس قد سأل المسيح: « يا رب كم مرة يخطئ إلى أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: بل إلى سبعين مرة » متى 18/21 - 22 .
ومرة أخرى قال لهم: « أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه تشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين » متى 5/44 - 45 .
ولم لا يكون العفو بصك غفران يمنحه الله لآدم، ويجنب المسيح ويلات الصلب وآلامه، أو يجعل للمسيح فدية عن الصلب كما جعل لإبراهيم فدية فدى بها ابنه إسماعيل.
وكذا فإن إصرار النصارى على أنه لا تكون مغفرة إلا بسفك دم انظر عبرانيين 9/22 ترده نصوص أخرى منها ما جاء في متى « إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة » متى 9/13 .
وفي التوراة أن الله قال لبني إسرائيل: « بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذّ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها » عاموس 5/21 - 22 ، فليست الذبيحة الوسيلة الأقرب لرضوان الله، بل أفضل منها العمل الصالح.
لكن النصارى يمنعون أن يكون هناك عفو عن آدم وأبنائه، بل لابد من العقوبة المستحقة لهم.
الاكتفاء بالعقوبة التي نالها الأبوان
ذكر سفر التكوين أن الله توعد آدم بالموت إن هو أكل من الشجرة.
ثم بعد الموت عاقبه بقوله: « ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك تأكل خبزاً، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود » . فطرد آدم من الجنة ليعيش في الأرض ويكد فيها.
وكذلك فإن زوجه عوقبت « تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك » التكوين 3/16-19 .
ونلاحظ أن آدم أوعد بعقوبة الموت، لكنه بدلاً عن أن يموت وزوجه جزاء خطيئتهما وتنطفىء الفتنة والفساد والشر في المهد، بدلاً من ذلك كثّر نسلهما، فكان ذلك حياة لهما لا موتاً، وكان سبباً في زيادة الشر والفساد.
لقد عوقب آدم وحواء إذاً، ونلحظ في العقوبة شدة متمثلة في لعن الأرض كلها والأتعاب الطويلة للرجال والنساء، ونلحظ أن ليس ثمة تناسباً بين الذنب والعقوبة، فقد كان يكفيهم الإخراج من الجنة.
وقد بقيت هذه القصاصات من لدن آدم حتى جاء المسيح الفادي - ثم ماذا ؟ هل رفعت هذه العقوبات بموت المسيح، هل رفعت عن المؤمنين فقط أم أن شيئاً لم يتغير؟
وهذا هو الصحيح، فما زال الناس يموتون من لدن المسيح، يموت أبرارهم وفجارهم فلم يبطل حكم الموت فيهم - كما ذكر بولس -: « مخلصنا يسوع الذي أبطل الموت، وأنار الحياة والخلود » تيموثاوس 2- 1/10 ، وقوله: « بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع » رومية 5/12 .
فالمسيح لم يبطل بصلبه ولا بدعوته أي موت سواء كان موتاً حقيقياً أو موتاً مجازياً، إذ مازال الناس في الخطيئة يتسربلون.
وأما الموت الحقيقي فليس في باب العقوبة في شيء، بل هو أمر قد كتب على بني آدم برهم وفاجرهم على السواء، قبل المسيح وبعده وإلى قيام الساعة، كما كتب الموت على الحيوان والنبات فما بالهم يموتون؟ وهل موتهم لخطأ جدهم وأصلهم الأول أم ماذا ؟!
ثم إن هناك من لا يملك النصارى دليلاً على موتهم، فنجوا من الموت من غير فداء المسيح، وذلك متمثل في أخنوخ وإيليا اللذين رفعا إلى السماء وهم أحياء كما في الأسفار المقدسة انظر تكوين 5/24، وملوك 2- 2/11، وعبرانيين 11/5 .
وعليه نستطيع القول بأن ليس ثمة علاقة بين الموت وخطيئة آدم.
وكذلك فإن القصاصات الأخرى ما تزال قائمة فما زال الرجال يكدون ويتعبون، وما تزال النساء تتوجع في الولادة.... ويستوي في ذلك النصارى وغيرهم.
وقد يقول النصارى بأن بقاء هذه الأمور لم يعد من باب العقوبة، فقد افتدانا المسيح من لعنة الموت مثلاً وليس من الموت وكذلك بقية العقوبات، ولكن هذا يرد عليه هرب المسيح من الموت وطلبه للنجاة. فمم كان يفر إذن؟
والعجب من إصرار النصارى بعد هذه العقوبات على أن الذنب مستمر، وأنه لابد من فادٍ بعد هذه العقوبات.
ويزداد العجب لنسبة النصارى الغائلة لله عز وجل والغضب المتواصل بسبب ذنب آدم طوال قرون عدة، ولنا أن نسأل كيف جهل الأنبياء ذلك فلم يذكروه في كتبهم كما لم يذكره المسيح ولم يعرفه تلاميذه من بعده حتى جاء به بولس وآباء الكنيسة فكشفوا ما غاب عن الأنبياء والمرسلين.
هـل افتـدانا المسيح على الصليب ؟_د. منقذ بن محمود السقار