النقد الضمني للرواية الإنجيلية
وعند التأمل في الروايات الإنجيلية في جزئيات كثيرة اجتمع عليها الإنجيليون - أو بعضهم - نجد أن في الروايات خللاً وحلقات مفقودة لا يمكن تجاوزها، علاوة على ما في الروايات من تهافت في المعنى.
وفي كثير من هذه الملاحظات لا يمكن للنصارى الخروج منها، إلا بالتسليم بأن المصلوب ليس المسيح، أو بالتسليم بأن الروايات بشرية الوضع، غير محبوكة الصنعة. ومنها:
- تتحدث الأناجيل عن دور يهوذا في خيانة المسيح بعد أن رافق المسيح وهو من خاصته، فكيف حصل هذا التغير المفاجىء ؟
إن وقوع الانحراف بين البشر لا يستبعد، ولكن الرواية الإنجيلية تجعل المسيح، وهو الذي أرسله الله لهداية البشر، تجعله سبباً في غواية يهوذا. يقول يوحنا على لسان المسيح: « الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة، وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي، فبعد اللقمة دخله الشيطان، فقال له يسوع: ما أنت تعمله، فاعمله بسرعة أكثر » يوحنا 13/26 – 27 ، فقد جعل النص المسيح سبباً في ضلالة يهوذا وخيانته.
كيف لم يستطع يهوذا أن يخرج الشياطين من نفسه، وهو أحد الذين قال لهم المسيح: « اشفوا مرضى، طهروا برصاً، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين؟ » متى 10/8 .
وعلى الرغم من أهمية شخصية يهوذا فإن أحداً من أصحاب الأناجيل - سوى متى - لم يذكر شيئاً عن موته، وقد اختار له متَّى ميتة سريعة سبقت حتى موت المسيح، وكأنه بذلك أراد أن يتخلص من الشخصية الغريبة، والتي اختفت منذ تلك الفترة. انظر متى 27/3-7 ، وقارن مع أعمال 1/18
وتناقض الروايتين وسكوت بقية الأناجيل يرجع لاختفاء يهوذا عن مسرح الأحداث في تلك الليلة التي قبض عليه فيها بدل المسيح.
وهنا يطرح سؤال نفسه: كيف جهل رؤساء الكهنة شخص المسيح حتى احتاجوا إلى من يدلهم عليه مقابل ثلاثين من الفضة ؛ كيف ذلك وهو الذي كان في الهيكل يعلم كل يوم انظر: لوقا 22/ 52 ، وقد عرفه حتى المجوس في طفولته؟ انظر: متى 2/1 – 11
وتذكر الأناجيل أن المسيح في ليلة الصلب تضرع إلى الله يدعوه أن يصرف عنه كأس الموت، فأين كان التلاميذ في تلك اللحظات العصيبة ؟ لقد كانوا مع المسيح في البستان، لكنهم كما وصفهم لوقا « ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نياماً من الحزن » لوقا 22/45 لكن المعهود في البشر أنهم إذا خافوا طار النوم وعز.
وهو ما يؤكده علماء النفس، ومرده فرز الغدة الكظرية لهرمون في مجرى الدم، فيتعقب النوم ويطارده، إذا كيف نام هؤلاء من الخوف ؟
- ومن التنافر أيضاً ما جاء في مرقس أن المسيح جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً فقال: « ناموا الآن واستريحوا. يكفى. قد أتت الساعة. هو ذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة، قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب » مرقس 14/41 فكيف يتوافق قوله: « ناموا الآن واستريحوا » مع قوله « قوموا لنذهب؟ » .
وثمة سؤال هنا: كيف يطلب الهرب وهو يعرف أنه سيؤخذ ويصلب ؟
- ومن التنافر في الرواية أن إنجيل يوحنا يُظهر الحكم على المسيح، وكأنه حكم إلهي نزل على رئيس الكهنة قيافا، وليس حكماً صادراً من مجمع للظّلَمة. يقول يوحنا: « فقال لهم واحد منهم. وهو قيافا كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا نُهلك الأمة كلها، ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد » يوحنا 11/49 - 52
فالنص يصف قيافا بالنبوة، وبأنه عرف أن المسيح يموت عن الشعب، فكيف يصح هذا ؟ وهو الذي حكم ظلماً على المسيح بالموت، كيف وهو أحد الظلمة الذين قال لهم المسيح: « ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة » لوقا 22/53
كيف يأمر نبي بقتل نبي، فلو صحت نبوته لكان حكمه ردة، أو يكون قد حكم على غير المسيح.
وفي محاولة للتبرير قال يوحنا فم الذهب: « إن روح القدس حرك لسان قيافا، لا قلبه على أن قيافا لم يخط ضد الإيمان، بل ضد العدل والتقوى » .
ولكن اللسان ليس إلا ترجماناً للقلب، وإذا كان روح القدس هو الذي حرك قيافا، فلم كان قيافا خاطئاً ضد العدل والتقوى.
وقد تعارض قيافا في فهمه لعموم الفداء وخصوصه، فهو يفهم أن المسيح موته فداء لبني إسرائيل، بينما يوحنا في رسالته الأولى يقول: « هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» يوحنا 1- 2/2 .
- وتذكر الأناجيل أن الجميع وقف ضد المسيح وليس رؤساء الكهنة فحسب، بل حتى الجماهير كانت تنادي على بيلاطس وتقول: « اصلبه. اصلبه » وترفض إطلاقه، وتود إطلاق المجرم باراباس « كان بيلاطس يطلب أن يطلقه، ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين: إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر » يوحنا 19/12 « فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالحري باراباس. فصرخوا أيضاً: اصلبه... فازدادوا جداً صراخاً: اصلبه، فبيلاطس إذن كان يريد أن يعمل للجمع ما يرضيهم » مرقس 15/11 - 15 .
فأين الجموع التي شفاها المسيح والتي تعد بالألوف؟ أين أولئك الذين استقبلوه وهو يدخل أورشليم راكباً على الجحش والأتان معاً ؟ أين أولئك « الجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر، وفرشوها في الطريق، والجموع الذين تقدموا، والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين أوصنا لابن داود.. ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: مَن هذا ؟ » متى 21/8 - 10
أين ذهب هؤلاء ؟ بل أين ذهب أصحاب المروءة والشهامة، وهم يرون المسيح يصفع ويضرب على غير ما ذنب أو جريرة ؟
- ذكر مرقس قصة الرجل الذي هرب عرياناً فقال: « تبعه شاب لابساً إزاراً على عريه » مرقس 14/52 ويدل هذا على أن الجو لم يكن بارداً، ومما يؤيد ذلك أن الفصح عند اليهود - حيث حصلت حادثة الصلب - يكون في شهر نيسان.
لكن يوحنا يذكر ما يفيد أن الجو كان بارداً، فقد وقف بطرس يوم محاكمة المصلوب، يحتمي من البرد بالنار يقول يوحنا: « وسمعان بطرس كان واقفاً يصطلي » يوحنا 18/25 فجمع الإنجيليون الصيف والشتاء في يوم واحد.
- ثم إن بطرس - الذي يحتل في المسيحية مكاناً بارزاً، وجعلت الأناجيل بيده مفاتيح السماوات والأرض - أنكر المسيح في تلك الليلة ثلاث مرات، وأضاف إلى الإنكار حَلفاً ولعناً، ولم تحدد الأناجيل الملعون هل هو يلعن نفسه أم المسيح ؟ أم....
لكن هذا لا يتفق مع خصوصية بطرس الذي قال له المسيح: « ولكني طلبت من أجلك، لكي لا يفنى إيمانك، وأنت متى رجعت، ثبت إخوانك » لوقا 22/32 .
كما أن الحلف منهي عنه عند النصارى، فكيف حلف بطرس والمسيح يقول: « لا تحلفوا البتة..، بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو شر » متى 5/34 - 37 .
وعليه فبطرس شرير، حلف كاذباً، والتوراة تقول: «.. لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً » الخروج 20/7 و « لا تحلف باسمي للكذب، فتدنس اسم إلهك، أنا الرب » اللاويين 19/12 وخروج بطرس عن هذه الأحكام يجعله ملعوناً « ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها» التثنية 27/26 .
ولا يمكن أن يصدر هذا الحلف واللعن من بطرس، فلا يمكن أن يهون عليه سيده إلى هذا الحد، ولو فعل ذلك لما كان مستحقاً لاسم الإيمان، فضلاً عن المعجزات والخصائص المذكورة في حقه في الأناجيل، وعليه، فإنه كان صادقاً في حلفه ولعنه، إذ المصلوب ليس المسيح، بل غيره.
- وتُظهر الأناجيل المسيح على الصليب غاية في الضعف والهوان، يستجديهم الماء وهو يرى شماتتهم، ثم يُسمعهم صراخه....ولا يتطابق هذا مع ما عُرف عن شخصية المسيح القوية، والتي تحدى فيها اليهود بأنهم سيطلبونه ولا يجدونه انظر يوحنا 7/23 ، أو المسيح الذي دخل الهيكل فطرد الصيارفة انظر مرقس 11/15 ، « وصام أربعين يوماً قبلُ » انظر متى 4/2 .
فلم كل هذا الجزع، وممن ؟ من المسيح الذي يدعون ألوهيته !! كيف يصدر هذا الخور منه وهو القائل لتلاميذه: « لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب سمعتم أني قلت لكم: أنا أذهب ثم آتي إليكم، لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت: أمضي إلى الآب » يوحنا 12/27 - 28
- ويذكر الإنجيليون قيامه المسيح بعد الموت، وهذه أحد أكثر موضوعات الأناجيل إثارة، لما في رواياتها من تناقض وتنافر.
فلم ظهر المسيح لتلاميذه ولم يظهر لأعدائه ؛ فهذا أظهر لحجته، وأدعى للإيمان به، كما نتساءل عن موقف الكهنة وقد علموا من الحراس بخروج المسيح من القبر: كيف سكتوا عن ذلك، إن الأناجيل لا تذكر أنهم حركوا ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم.
وأنبه هنا إلى أن إنكار قيامة المسيح قديم، فهاهم أهل باغوس يحدثهم بولس «ولما سمعوا بالقيامة من الأموات كان البعض يستهزئون، والبعض يقولون سنسمع منك عن هذا أيضاً » أعمال 17/32 .
ومما يدل على عدم صحتها: جهل تلاميذ المسيح بها « لأنهم لم يكونوا بعدُ يعرفون الكتاب، أنه ينبغي أن يقوم من الأموات » يوحنا 20/10 وعليه فإن فكرة سرقة الجسد من القبر كان إشاعة قديمة لتبرير القيامة.
ومن الأدلة على كذب القيامة: وجود المسيح وظهوره، فوجوده دليل على أنه لم يمت، لأن التوراة تقول: « السحاب يضمحل ويزول، هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد » أيوب 7/9 ولو كان المسيح قد مات لا يرونه بعدُ لأنه قال: « لأني ذاهب إلى أبي، ولا ترونني أيضاً » يوحنا 16/1 ويؤكد هذا قوله: «الحق الحق أقول لكم، إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب» لوقا 13/5 .
وهكذا ومن خلال هذا كله يتبين لنا أن الروايات الإنجيلية أقل بكثير من أن تصلح للاعتبار في مسألة مهمة كهذه إذ هي عمل بشري ممتلئ بسائر أنواع الضعف البشري.