من الفادي ؟
ورغم هذه العقوبات والمخارج فإن النصارى يقولون بلزوم الفداء والقصاص، فلم لا يكون القصاص في آدم وحواء فيحييهما الله ويصلبهما، أو يصلب بدلاً منهما شيطاناً أو سوى ذلك فإن ذلك، أعدل من صلب المسيح البريء.
يجيب النصارى بأنه لابد في الكفارة أن تكون شيئاً يعدل البشر جميعاً من غير أن يحمل خطيئتهم الموروثة، وهذه الشروط لا تتوافر في آدم وغيره، بل هي لا تتوفر إلا في المسيح الذي تجسد وتأنس من أجل هذه المهمة العظيمة فكان أوان خلاصنا ورحمة الله بنا كما قال لوقا: « لأن ابن الإنسان قد جاء، لكي يصلب ويخلص ما قد هلك » لوقا 19/10 و « لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، كي لا يهلك كل من يؤمن، بل تكون له الحياة الأبدية، ولأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص » يوحنا 3/16 - 17 ، فالمسيح يتميز عن سائر البشر بأنه ولد طاهراً من إصر الخطيئة، ولم يصنعها طوال حياته، فهو وحده الذي يمكن أن يصير فادياً وأن يقبل به الفداء، وكما يقول بطرس: « عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى: بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حَمَلٍ بِلاَ عيْب، ولا دنس دم: المسيح » بطرس 1- 1/18 - 19 .
لكن المسيح لا يمتاز هنا عن كثيرين من الأبرار والمؤمنين الذين لم يفعلوا خطيئة ولا ذنباً، «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية » يوحنا 3/9 ، ولا يخفى أن كل المؤمنين مولودون من الله «وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا : أولاد الله. أي المؤمنين باسمه» يوحنا 1/12 . أما كان صلب أحد هؤلاء كفارة أولى من صلب الإله؟
لكن نرى أن شرط النصارى في براءة الفادي من الذنب لم يتحقق حتى بالمسيح رغم أنه وضع له، فالمسيح عندهم جسد أرضي ويكتنفه حلول إلهي، وهم حين يقولون بالصلب فإن أحداً منهم لا يقول بصلب الإله، لكن بصلب الناسوت، وناسوت المسيح جاءه من مريم التي هي أيضاً حاملة للخطيئة، فالمسيح بجسده الفادي الحامل للخطيئة وراثة لا يصلح أن يكون فادياً، فإن زعمت النصارى بأن مريم قد تطهرت من خطيئتها بوسيلة ما من غير حاجة للفداء، فلم لا يطهر جميع الناس بهذه الوسيلة !
وإن قال النصارى بأن المسيح طهر بالتعميد الذي عمده يوحنا المعمدان وعمره ثلاثون سنة، فقد قالوا بحلول الإله في جسد خاطئ، ويلزمهم أيضاً أن يجوز طهارة كل أحد بالتعميد من غير حاجة لخلاص وفداء.
ثم المتأمل في نصوص العهد الجديد يراها تنسب للمسيح – وحاشاه – العديد من الذنوب والآثام التي تجعله أحد الخاطئين فلا يصلح حينئذ لتحقيق الخلاص لحاجته هو إلى من يخلصه، فالمسيح كما تذكر الأسفار الإنجيلية سبّاب وشريب خمر، مستوجب لدخول جهنم، ومحروم من دخول الملكوت.
فقد اتهمه متى بشرب الخمر «جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب. فيقولون: هوذا إنسان أكول وشريب خمر. محب للعشارين والخطاة» متى 11/9 .
فيما نسبت إليه الأناجيل الكثير من السباب والشتائم كما في قوله لتلميذيه: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء» لوقا 24/25 ، وقوله لبطرس : «اذهب عني يا شيطان » متى 16/23 ، وكذا شتم الأنبياء وتشبيههم باللصوص في قوله: « قال لهم يسوع أيضاً: الحق الحق أقول لكم: إني أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص» يوحنا 10/7-8 .
وهذا السباب وغيره يستحق فاعله، بل فاعل ما هو أقل منه نار جهنم، وذلك حسب العهد الجديد، يقول متى: « ومن قال: يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم» متى 5/23 ، وقال بولس متوعداً الذين يشتمون والذين يشربون الخمر بالحرمان من دخول الجنة، حيث يقول: «ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله» كورنثوس 1- 6/10 فمن استحق النار – وحاشاه – هل يصلح ليفدي البشرية كلها؟
وعلىكلٍ فالمصلوب هو ابن الإنسان، وليس ابن الله، فالثمن دون الغرض الذي يدفع له، كيف لإنسان أن يعدل البشرية كلها بدمه؟
كما يؤكد المسلمون أن صلب المسيح البريء نيابة عن المذنب آدم وأبنائه حاملي الإثم ووارثيه نوع من الظلم لا تقره الشرائع باختلاف أنواعها، ولو عرضت قضية المسيح على أي محكمة بشرية لصدر في دقيقتين حكم ببراءته. فكيف رضي النصارى أن ينسبوا الله عز وجل أن يرضى عن مثل هذا الظلم فيصلب البريء بذنب المذنب، وهو قادر على العفو والمغفرة.
ويجيب النصارى بأن ليس في الأمر ظلم، وذلك أن المسيح تطوع بالقيام بهذه المهمة، بل إن نزول لاهوته من السماء وتأنسه كان لتحقيق هذه المهمة العظيمة المتمثلة بخلاص الناس من الإثم والخطيئة، وهذا القول مردود من وجوه عدة.
- منها أن المسيح لا يحق له أن يرضى عن مثل هذا الصنيع فهذا من الانتحار لا الفداء. فقاطع يده مذنب مع أن ذلك برضاه.
- ومنها أن المسيح صدرت منه تصرفات كثيرة تدل على هروبه وكراهيته للموت، ولو كان قد جاء لهذه المهمة فلم هرب منها مراراً، وصدر عنه طبيعة ما يشعر بجهله بهذه المهمة.
فقد هرب المسيح من طالبيه مراراً انظر يوحنا 11/53 .
ولما رأى إصرارهم على قتله قال: « بل ينبغي أن أسير اليوم وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك بني خارجاً عن أورشليم » لوقا 13/33 .
ولما أحس بالمؤامرة أمر تلاميذه أن يشتروا سيوفاً ليدفعوا بها عنه انظر لوقا 22/36 - 38 .
ثم هرب إلى البستان وصلى طويلاً وحزن واكتئب وتصبب عرقه وهو يطلب من الله « إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس » متى 26/39 .
ثم لما وضع على الصليب صرخ « إيلي إيلي، لم شبقتني، أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ » متى 27/46 .
والنص الأخير اعتبرته دراسة صموئيل ريماروس ت 1778م حجة أساس في نتائجه التي توصل إليها بعد دراسته الموسعة فاعتبره دالاً على أن المسيح لم يخطر بباله أنه سيصلب خلافاً لما تقوله الأناجيل.
- ومنها أن المسيح لم يخبر عن هذه المهمة أحداً من تلاميذه، وأن أحداً منهم لم يعرف شيئاً عن ذلك، كما لم تخبر به النبوات على جلالة الحدث وأهميته، ثم إنه قال قبيل الصلب والفداء المفترض: « أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته » يوحنا 17/5 ، فقد أكمل عمله على الأرض قبل الصلب