مصادر القول بألوهية المسيح
« إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد» «المائدة: 116-117» .
وإذا لم يكن المسيح قد قال بألوهية نفسه، ولم يقل بها معاصروه، فمن أين وفدت هذه العقائد على النصرانية؟
وفي الجواب نقول: إنه بولس عدو النصرانية، اليهودي الذي ادعى رؤية المسيح في السماء بعد رفعه، وقد نحل ذلك من الوثنيات المختلفة التي كانت تقدس بعض البشر وتعتبرهم أبناء الله. «وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون» «التوبة: 30» .
أهمية بولس في الفكر النصراني
بولس أشهر كتبة العهد الجديد، وأهم الإنجيليين على الإطلاق، فقد كتب أربع عشرة رسالة، تشكل ما يقارب النصف من العهد الجديد، وفيها فقط تجد العديد من العقائد النصرانية، إنه مؤسس النصرانية وواضع عقائدها؟ وهو الوحيد الذي ادعى النبوة، دون سائر الإنجيليين.
فالنصرانية المحرفة عمادها الرئيس رسائل بولس، التي كانت رسائله أول ما خط من سطور العهد الجديد الذي جاء متناسقاً إلى حد ما مع رسائل بولس، لا سيما إنجيل يوحنا، فيما رفضت الكنيسة النصرانية تلك الرسائل التي تتعارض مع نصرانية بولس التي طغت على النصرانية الأصلية التي نادى بها المسيح وتلاميذه من بعده.
وهذا الأثر الذي تركه بولس في النصرانية لا يغفل ولا ينكر، مما حد بالكاتب مايكل هارت في كتابه «الخالدون المائة» أن يجعل بولس أحد أهم رجال التاريخ أثراً إذ وضعه في المرتبة السادسة بينما كان المسيح في المرتبة الثالثة.
وقد برر هارت وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المرتبة الأولى من قائمته، وتقدمه على المسيح الذي يعد المنتسبون لدينه الأكثر على وجه الأرض، فقال: «فالمسيحية لم يؤسسها شخص واحد، وإنما أقامها اثنان: المسيح عليه السلام والقديس بولس، ولذلك يجب أن يتقاسم شرف إنشائها هذان الرجلان.
فالمسيح عليه السلام قد أرسى المبادئ الأخلاقية للمسيحية، وكذلك نظراتها الروحية وكل ما يتعلق بالسلوك الإنساني.
وأما مبادئ اللاهوت فهي من صنع القديس بولس» ، ويقول هارت: «المسيح لم يبشر بشيء من هذا الذي قاله بولس الذي يعتبر المسئول الأول عن تأليه المسيح» . وينبه هارت إلى أن بولس لم يستخدم لقب «ابن الإنسان» الذي كان كثيراً ما يطلقه المسيح على نفسه.
وقد خلت قائمة مايكل هارت من تلاميذ المسيح الذين غلبتهم دعوة بولس مؤسس المسيحية الحقيقي، فيما كان الامبرطور قسطنطين صاحب مجمع نيقية «325م» في المرتبة الثامنة والعشرين.
وقد تعرض المحققون بالذكر للعديد من البدع التي أحدثها بولس في عقائد النصرانية وشرائعها، وبينوا اعتماداً على كتب العهد الجديد براءة المسيح من هذه البدع.
بولس وألوهية المسيح
وإذا خلت الأناجيل- سوى ما قد يقال عن إنجيل يوحنا- من تقرير عقيدة ألوهية المسيح فإن رسائل بولس تمتلئ بالغلو في المسيح، والنصوص التي تعتبر المسيح كائناً فريداً عن البشر.
فماذا في أقوال بولس عن المسيح؟ وهل يعتبره رسولاً أم إلهاً متجسداً أم…
عند التأمل في رسائل بولس نجد إجابة متناقضة بين رسالة وأخرى، إذ ثمة نصوص تصرح ببشرية المسيح، وثمة أخرى تقول بألوهيته، فهل هذا التناقض يرجع إلى تلون بولس حسب حالة مدعويه أم أنه متوافق مع تطوير بولس لمعتقده في المسيح؟ أم يرجع التناقض إلى ما تعرضت له الرسائل من تغير وتبديل…هذا كله يبقى محتملاً من غير ترجيح.
فمن النصوص التي تحدثت عن المسيح كعبد من البشر يتميز عنهم بمحبة الله له واصطفائه قول بولس: «يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح» «تيموثاوس (1» 2/5).
ومثله يقول معترفاً بوحدانية رب الأرباب «أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم إلى ظهور ربنا يسوع المسيح، الذي سيبينه في أوقاته المبارك العزيز الوحيد، ملك الملوك، ورب الأرباب، الذي وحده له عدم الموت…» «تيموثاوس (1» 6/14-16)، فالمسيح رب، لكن الله وحده رب الأرباب.
والمسيح بشر متميز بتقديم الله له يقول عنه بولس: «مدعو من الله رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق» «عبرانيين 5/10» ، وهو أي المسيح «الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات، وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه» «عبرانيين 5/7» .
ويقارن بولس بين منـزلته ومنـزلة مخلوقات مثله يفضلها عليه تارة، ويفضله عليها أخرى فيقول: «لكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة : يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت» «عبرانيين 2/9» .
وفي مواضع آخر يقارن بينه وبين موسى فيقول: «لاحظوا رسول اعترافنا ورئيس كهنته المسيح يسوع حال كونه أميناً للذي أقامه كما كان موسى… موسى كان في كل بيته كخادم…، وأما المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء…» «عبرانيين 3/1-6» .
فهذه النصوص وغيرها تحدث بها بولس عن المسيح كبشر متميز بمحبة الله له واختياره ليكون وسيلة في إبلاغ وحيه.
لكن لبولس نصوص أخرى تبالغ في وصف المسيح حتى تكاد تجعله ابناً حقيقياً لله لكثرة ما فيها من الغلو والتأكيد على خصوصية المسيح، مما يفهم منه أن البنوة هنا تختلف عن سائر ما ورد في الكتاب المقدس، ويتضح ذلك من مواضع أخرى يعتبره فيها صورة لله، أو الجسد الذي تجسد فيه الإله.
يقول بولس: «فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة» «رومية 8/3» .
ويقول: «الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله…» «رومية 8/32» .
ويقول: ^أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة «غلاطية 4/4» ، ويفهم من النص بنوة حقيقية يراها بولس للمسيح، وإلا فجميع المؤمنين أبناء الله «على المجاز» مولودون من جنس النساء.
ويقول: «الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه» «عبرانيين 1/1-4» . فهو كما يرى بولس نوع مختلف عما سبق من الأنبياء السابقين، والذين هم جميعاً أبناء الله بالمعنى الكتابي المجازي للكلمة.
ويقول بولس عن المسيح: « هو صورة الله الغير المنظور، بكر كل خليقة» «كولوسي 1/15» .
ويقول: «إذ كان في صورة الله لن يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبده، صائراً في شبه الناس» «فيلبي2/6-7» .
ويقول جاعلاً المسيح هو الله – كما في الترجمة المتداولة -: «عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد» «تيموثاوس (1» 3/16).
ويقول: «أظهر كلمته في أوقاتها الخاصة بالكرازة التي أؤتمنت أنا عليها بحسب أمر مخلصنا: الله» «تيطس 1/3» .
وتحدث المحققون أيضاً عن البيئة التي جعلت بولس يندفع للقول بألوهية المسيح، وتحدثوا عن المصادر التي استقى منها بولس هذه العقيدة.
أما البيئة التي بشر بها بولس فقد كانت بيئةً مليئة بالخرافات التي تنتشر بين البسطاء والسذج الذين هم غالب أفراد مجتمع ذلك الزمان، يضاف إليه أن تلك المجتمعات وثنية تؤمن بتعدد الآلهة وتجسدها وموتها، ففي رحلة بولس وبرنابا إلى لستر، صنعا بعض الأعاجيب «فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا أصواتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس، ونزلوا إلينا، فكانوا يدعون برنابا: زفس، وبولس: هرمس» «أعمال 14/11-12» ، وزفس وهرمس كما أوضح محررو قاموس الكتاب المقدس :اسمان لإلهين من آلهة الرومان: أولهما: كبير الآلهة. والثاني: إله الفصاحة.
وهكذا رأى هؤلاء البسطاء الوثنيون في بولس وبرنابا إلهين بمجرد أن فعلا بعض الأعاجيب، بل ويحكي سفر الأعمال أيضاً أن الكهنة قربوا إليهما الذبائح، وهموا بذبحها، لولا إنكار بولس وبرنابا عليهم. «انظر أعمال 14/13-18» .
فماذا يكون قول هؤلاء في الذي كان يحيي الموتى، وأشيع أنه قام من الموتى وأتى بالأعاجيب والمعجزات.
وفكرة تجسد الآلهة مقبولة عند الوثنين الذين حددوا مواسم وأعياد معروفة لولادة الآلهة المتجسدة وموتها، وبعثتها، لذلك فإن بولس أنزل الإله للأرض ليراه الرومان ويكون قريباً منهم.
ويرى الأستاذ حسني الأطير في كتابه القيم « عقائد النصارى الموحدين بين الإسلام والمسيحية » أن الذي دفع بولس لإظهار ألوهية المسيح هو الامبرطور الروماني طيباروس قيصر «37م» .
ويستدل لذلك بما أورده المؤرخ أوسابيوس القيصري «340م» ، عن طيباروس حيث بلغته أخبار المسيح، فأراد إضافته إلى الآلهة، ولكن وحسب المتبع لا بد أن يحال الأمر إلى مجلس الأعيان للمصادقة عليه، إذ لا يجوز للامبرطور أن يضيف إلهاً إلا بواسطتهم، لكن المجلس رفض ذلك، وبقي طيباروس متمسكاً برأيه.
ويوافق أوسابيوس بذلك ما جاء عن المؤرخ ترتليانوس «ق3م» إذ يقول : «وطيباروس نفسه لو أمكن أن يكون قيصراً ومسيحياً معاً لكان آمن به» .
ويفترض الأطير أن بولس ربما كان أحد أهم أدوات اتخذها الامبرطور لنشر فكرته الجديدة عن المسيح كإله، وبقي هذا الوضع قائماً بعد طيباروس حتى تولى القيصرية نيرون، فكان -كما يقول أوسابيوس- «أول امبرطور أعلن العداء للديانة الإلهية» .
وأما استخدام مصطلح «ابن الله» من قبل بولس فيراه شارل جنيبر غير كاف للحكم بأنه أراد الإلهية منه، فقد «بدا تصور بولس له مشوباً بالكثير من التردد والنقص بحيث لم يقدر له مقاومة الزمن، واتجهت تقوى المؤمنين في قوة- دونما إدراك للعقبات –إلى تنشيط الإيمان بالوحدة بين السيد والله» .
وفسر شارل جنيبر ذلك بأن لفظ البنوة معروف في الفكر اليهودي، وقد أطلق على كثيرين أنهم أبناء الله، لكن ظهر للكلمة مفهوم البنوة الحقيقية في مرابع الفكر اليوناني في طرسوس التي كانت مركزاً للثقافات المختلفة، ومنها نقل بولس كثيراً مما أدخله في النصرانية.
ويحاول النصارى تأصيل فكرة ألوهية المسيح وردها إلى المسيح وتلاميذه، وتبرئة بولس منها، مستدلين بما جاء في «متى 16/16» ، والذي يقضي بأن بطرس أول من قال بتأليه المسيح، ولم ينكر عليه المسيح إذ لما سألهم المسيح: « أنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال :أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا…» «متى 16/15-16» .
لكن الأطير يعتبر ما جاء في متى محرفاً بدلالة ما جاء في وصف الحدث نفسه عند غيره من الإنجيليين، ففي مرقس «فأجاب بطرس، وقال له: أنت المسيح» «مرقس 8/29» ، ولم يذكر البنوة، وفي لوقا: «فأجاب بطرس، وقال: مسيح الله» «لوقا 9/20» .
وبذلك يكون متى قد خالف مرقس وهو ينقل عنه.
كما لا يمكن قبول ما جاء في متى لفقد أصله العبراني، فلا نعلم مدى الدقة التي التزمها المترجم في ترجمة العبارة.
بولس والتثليث
دأب الكثير من المحققين على اتهام بولس بوضع التثليث في النصرانية من غير أن يقدموا على ذلك بدليل من أقوال بولس، مكتفين بما عرف عن دور بولس في صياغة سائر المعتقدات النصرانية، وهذا الاتهام لا أراه محقاً، إذ خلت رسائل بولس من تأليه الروح القدس، كما خلت من ذكر عناصر التثليث مجتمعة إلا في نص واحد لا يفهم منه خالي الذهن ما يعتقده النصارى من التثليث، وقد جاء ذلك في قوله «نعمة ربنا يسوع ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم» «كورنثوس(2» 13/14)، فليس في النص ما يفيد ألوهية الروح القدس.
ومما يؤكد غفلة بولس عن التثليث التأمل في ترتيب عناصر التثليث المذكورين في النص، إذ يقدم المسيح على الأب، وهو ما تعتبره الفرق النصرانية هرطقة.
ويضاف إلى ذلك أنه سمى الأقنوم الأول :الله. فيما تسميه صيغة التثليث: الآب، كما سمى الأقنوم الثاني : المسيح، فيما هو عندهم : الابن.
والصحيح أن التثليث لا علاقة له ببولس، فقد كان ظهوره في مرحلة متأخرة جداً عن بولس، وأول من ذكره هو ترتليان «200م» ، وأصبح عقيدة رسمية عام 381م في مجمع القسطنطينية، ولم يرد له ذكر حتى في قرارات مجمع نيقية «325م» .
الله واحد أم ثلاثة_د. منقذ بن محمود السقار