مصادر عقيدة الفداء والخلاص
في مجمع نيقية المنعقد في سنة 325م. تقررت عقيدة الفداء والخلاص، وقد صدر عنه الأمانة وفيها: « الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل وتجسد وتألم ومات، وقام أيضاً في اليوم الثالث » .
فمن أين استقى المجتمعون هذه العقيدة المهمة من عقائد النصرانية.
دور بولس في نشأة فكرة الفداء في النصرانية
يعتبر بولس الأب الحقيقي لقصة الفداء والخلاص في النصرانية، حيث تظهر بجلاء ووضوح في في كلماته كما قد بينا بعضه من قبل، وأوضحها قوله: « ولكن الله بين محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، فبالأولى كثيراً، ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب، لأنه وإن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه.. من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع... لكن قد ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم الذي هو مثال الآتي.. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون، فبالأولى كثيراً نعمة الله، والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين... » رومية 5/8 - 15 .
وقد صرح بولس بأهمية فكرة الفداء عنده إذ قال: « لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً » كورنثوس 1- 2/2 .
ويقول في ذلك الأب بولس إلياس الخوري: « مما لا ريب فيه أن الفكرة الأساسية التي ملكت على بولس مشاعره، فعبر عنها في رسائله بأساليب مختلفة هي فكرة رفق الله بالبشر، وهذا الرفق بهم هو ما حمله على إقالتهم من عثارهم، فأرسل إليهم ابنه الوحيد، ليفتديهم على الصليب...... وهذه الفكرة عينها هي التي هيمنت على إنجيل لوقا » .
ويقول ارنست دي بوش في كتابه - الإسلام: أي النصرانية الحقة « إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه، من الذين لم يروا المسيح، لا من أصول النصرانية الأصلية » .
ففكرة الفداء والخلاص بدعة بولسية لم يقلها المسيح، ولم يعرفها الحواريون، فنصوص الأناجيل التي تحدثت عن الفداء نصوص لا يفهم منها خالي الذهن تلك العقيدة التي فهمها النصارى.
وعقيدة بهذه الأهمية ما كان المسيح ليضنّ على البشر ببيانها وتوضيحها، إذ يزعمون أن مصير البشرية يتعلق بالإيمان بها، فقد تعلق بها هلاك البشر ونجاتهم.
ويحاول النصارى التأكيد على ورود هذا المعتقد على لسان المسيح وتلاميذه، ويتعلقون ببعض نصوص الإنجيليين، ومن هذه النصوص: قول متى « فستلد ابناً، وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» متى 1/21 ومثله « إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب » لوقا 2/11 ومثله « لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته لجميع الشعوب » لوقا 2/30 و « كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين » متى 20/28 و «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا » متى 26/28 و « لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك » لوقا 19/10 .
ولعل أوضح نصوص الأناجيل ما كتبه يوحنا: « لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية، لأنه لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلص به العالم » يوحنا 3/16 - 17 ،
وأول ملاحظة نذكرها أن أغلب هذه النصوص هي من قول التلاميذ، ولم ينسبوها للمسيح، ثم هذه النصوص جميعاً قد كتبت بعد أن دون بولس رسائله، فأول الإنجيليين تأليفاً هو مرقس، وقد دون إنجيله بعد وفاة بولس سنة 67م.
ولا ريب أن في هذه النصوص - رغم عدم قطعية دلالتها على عقيدة النصارى - صدىً لما كان قد خطه بولس في رسائله.
وهذه النصوص خلت من الحديث عن الخطيئة الأولى الموروثة وخطايا العالم اللاحقة والماضية، وأين فيها الحديث عن الحرية المسلوبة، والإرادة.... وعليه فإن خالي الذهن لا يمكن أن يتوصل إلى معتقد النصارى من خلال هذه النصوص، التي يمكن حملها على معاني مجازية، كما لو قيل إن فلاناً ضحى بنفسه من أجل أمته...
فقد وصف يوحنا المعمدان بالمخلص، وعمله بالفداء، وليس المقصود الفداء الذي يذكره النصارى للمسيح، بل الفداء والتطهير والخلاص بالتوبة والعمل الصالح، وهو سبيل الخلاص من مكر الأعداء وتسلطهم، فقد سمي موسى فادياً، يقول الله عن موسى: «هذا موسى الذي أنكروه قائلين: من أقامك رئيساً وقاضياً، هذا أرسله الله رئيساً وفادياً بيد الملاك الذي ظهر له في العليقة، هذا أخرجهم صانعاً عجائب وآيات في أرض مصر وفي البحر الأحمر، وفي البرية أربعين سنة» أعمال 7/35 .
يقول لوقا عن يوحنا المعمدان، وقبل أن يولد المسيح: « وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس، وتنبأ قائلاً: مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه... خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا... وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى، لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعدّ طرقه. لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم، بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المشرق من العلاء، ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام » لوقا 1/67-79 .
وعلى هذا النحو سمى التلميذان المسيح فادياً، فقالا: « كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل » لوقا 24/20-21 ، أي كنا نرجو أن يكون خلاص بني إسرائيل على يديه، لكنهم صلبوه وقتلوه.
وهذا المعنى من معاني الفداء والخلاص معروف في الأسفار التوراتية التي تحدثت عن نجاة بني إسرائيل من المصائب، «أخرجكم الرب بيد شديدة، وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر» التثنية 7/8 ومثله في التثنية 13/5 ، ومثله في قوله: «اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بري في وسط شعبك إسرائيل، فيغفر لهم » التثنية 21/8-9
وكذا في سفر المزامير سمى الرب فادياً «الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب» المزامير 34/22 ، وفي نص آخر يؤكد هذا المعنى للفداء والخلاص، فيقول: « هكذا قال الرب فادي إسرائيل: قدوسُه للمهان النفس، لمكروه الأمة، لعبد المتسلطين» إشعيا 49/7 ، فأطلق على الله لقب الفادي والمخلص، فالفداء أو الخلاص له معان أوسع من الذبيحة والمعاوضة التي يصر عليها بولس.
فهي نصوص تتحدث فداء وخلاص، وذلك برحمة من الله وفضل، من غير فاد ولا دم مسفوح.
وقد مال إلى تبسيط معاني تلك النصوص التي يحتج بها النصارى على الفداء والكفارة منكرو معتقد الكفارة والفداء من النصارى أنفسهم كما ذكرت دائرة المعارف البريطانية، ومنهم الفرقة السوزينية، والمؤرخ كوائليس تيسي، وايبي لارد.
ولئن كانت الفكرة تائهة عند الإنجيلين فهي كذلك عند بقية تلاميذ المسيح وحوارييه الذين لا تجد لديهم بقصة الفداء خبراً، فلم ترد عنهم نصوص تبيين علمهم بهذه المسألة، وهذا لا ريب دال على كونها من صنع بولس وتأليفه وأن المسيح لم يخبر بها، ولم يعلمها أصلاً.
وفي ذلك يقول شارل جنيبر: « إن موت عيسى في نظر الإثني عشر ليس بالتضحية التكفيرية » .
والحواريون لم يعلموا أصلاً بأن المسيح سيصلب كما قال مرقس: « كان يعلم تلاميذه، ويقول لهم: إن ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث، وأما هم فلم يفهموا القول، وخافوا أن يسألوه » مرقس 9/30 - 32 .
ويدل على جهل تلاميذ المسيح بمسألة الفداء ما ذكره لوقا حين قال عن حال التلميذين المنطلقين لعمواس « فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين فقال لهما ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين....كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك » لوقا 24/17-21 . لقد جهل التلميذان موضوع الخلاص بموت المسيح، فهما يبحثان عن خلاص آخر، وهو الخلاص الذي يأتي به النبي الذي تنتظره بنو إسرائيل.
ومثله أيضاً جهلت الجموع التي شهدت الصلب أن ذلك يكفر الخطيئة ويرفعها، ولنتأمل ما ذكره لوقا في وصف الجموع وحزنهم على المسيح « وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان رجعوا وهم يقرعون صدورهم، وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرن ذلك » لوقا 23/48 - 49 .
ولو كان ما يقوله النصارى في الفداء صحيحاً لكان ينبغي أن يحتفلوا بموت المسيح لخلاص البشرية وخلاصهم من الذنب الذي ناءت بحمله البشرية قروناً مديدة.