الذي رآني فقد رأى الآب
ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح قول المسيح: «الذي رآني فقد رأى الآب» يوحنا 14/9)
ولفهم النص نعود إلى سياقه، فالسياق من أوله يخبر عن أن المسيح قال لتلاميذه: «أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم » وقصده بالمكان الملكوت.
فلم يفهم عليه توما فقال : « يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق » ، لقد فهم أنه يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: «أنا هو الطريق والحق والحياة » . يوحنا14/1-6)، أي اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته، كما في قول بطرس: « بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده» أعمال 10/34).
ثم طلب منه فيلبس أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له: « ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب في، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…» يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب، حين رأى أعمال الله - المعجزات - التي أجراها على يد المسيح.
يشبه هذا النص تماماً ما جاء في مرقس «فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني» مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح هو ذات الله، ولكنه يخبر عليه الصلاة والسلام أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
فالرؤية هنا معنوية، أي رؤية البصيرة لا البصر، ولهذا التأويل دليل قوي يسوغه، وهو أن عيسى لم يدع قط أنه الآب، ولا يقول بمثل هذا من النصارى أحد سوى الأرثوذكس الذين هم أيضاً لا يقولون بأن المسيح هو الآب، لكنهم يقولون: الآب هو الابن، فالمعنى الحقيقي القريب للرؤية مرفوض.
ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال بعد قليل: « بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني» يوحنا 14 /19 )، فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية، إذ لا يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.
ويشهد له ما جاء في متى: يشهد له ما جاء في متى: « ليس أحد يعرف الابن إلا الأب، ولا أحد يعرف الأب إلا الابن » متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة.
ونحوه قوله: «فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي أرسلني... لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم» يوحنا -12- 44-51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة، وقوله: « والذي يراني يرى الذي أرسلني» ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الآب المرسِل قد رأى الابن المرسَل، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: «أبي أعظم مني» يوحنا 14/28)، وقال: «أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل» يوحنا 10/29).
ومثل هذا الاستعمال الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية، مثل هذا معهود في العهد القديم والجديد، ففي العهد القديم لما رفض بنو إسرائيل صموئيل « وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا » صموئيل -1- 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة صموئيل هو في الحقيقة عصيان لله في الحقيقة، ولذا قال: «أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس بل على الله، أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر.أنت لم تكذب على الناس بل على الله» أعمال 5/4-5).
وكذا من يرى المسيح فكأنه يرى الله، ومن قبِل المسيح فكأنما قبل الله عز وجل، يقول لوقا: «من قبِل هذا الولد باسمي يقبلني. ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني » لوقا 9/48)، وكذا من رأى الآب فقد رآني، لأنه «الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…» يوحنا 14/10).
وقوله: «أنا هو الطريق والحق والحياة» يقصد فيه المسيح الالتزام بتعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فذلك فقط يدخل الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: «يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي» متى 7 /21)، فالخلاص بالعمل الصالح والبر « أقول لكم: إنكم إن لم يزد بِرّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات.. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم» متى 5/20-23).
ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل للنصارى «الذي رآني فقد رأى الآب» إذا آمنا أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: « الله لم يره أحد قط» يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: «لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية » تيموثاوس -1- 6/16)، فيصير النص إلى رؤية المعرفة.
المسيح صورة الله
ومن أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: «مجد المسيح الذي هو صورة الله» كورنثوس -2- 4/4)، وفي فيلبي يقول: «المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس» فيلبي 2/6-7) ويقول عنه أيضاً: «الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة» كولوسي 1/15).
لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس، ولا نراها عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء نظرة الشك والارتياب عليها.
ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل : « فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل» كورنثوس -1- 11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.
كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم يشارك الله في هذه الصورة كما جاء في سفر التكوين عن خلقه: «قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه» التكوين 1/26-27).
فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يكذبهم، فقد جاء في إشعيا «اجتمعوا يا كل الأمم…لكي تعرفوا وتؤمنوا بي… قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص» إشعيا 43/9-11).
أزلية المسيح
ويتحدث النصارى عن المسيح الإله الذي كان موجوداً في الأزل قبل الخليقة، ويستدلون لذلك بأمور، منها ما أورده يوحنا على لسان المسيح أنه قال: « إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا » يوحنا 8/56-58)، ففهموا منه - باطلاً – أن وجوده قبل إبراهيم يعني أنه كائن أزلي.
ويقول يوحنا عن المسيح: «هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه…أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية» الرؤيا1/7-8). أي الأول والآخر.
كما جاء في مقدمة يوحنا ما يفيد وجوداً أزلياً للمسيح قبل خلق العالم « في البدء كانت الكلمة، الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله» يوحنا1/1-2). فهذه النصوص مصرحة برأي النصارى بأزلية المسيح وأبديته، وعليه فهي دليل ألوهيته.
ويخالف المحققون في النتيجة التي توصل إليها النصارى، إذ ليس المقصود الوجود الحقيقي للمسيح كشخص، بل المقصود الوجود القدري والاصطفائي، أي اختيار الله واصطفاؤه له قديم، كما قال بولس عن نفسه وأتباعه « كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين» أفسس 1/4) أي اختارنا بقدره القديم، ولا يفيد أنهم وجدوا حينذاك.
وهذا الاصطفاء هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله: «والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» يوحنا 17/5)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» يوحنا 17/22).
ومثله عرف إبراهيم المسيح قبل خلقه، لا بشخصه طبعاً، لأنه لم يره قطعاً « فقد رآني وابتهج بي» ، فالرؤية مجازية، وهي رؤية المعرفة، وإلا لزم النصارى أن يذكروا دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني.
وقول يوحنا على لسان المسيح أنه قال: «من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا » يوحنا 8/56-58)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص إذا أخذ على ظاهره أن للمسيح وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.
ثم لو كان المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له لحظة بداية خُلق فيها، كما لكل مخلوق بداية، وهو ما ذكره بولس: «الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة» كولوسي 1/15)، فهو مخلوق، لكنه بكر الخلائق أي أولها، والخلق يتنافى مع الأزلية.
وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فإن بولس يزعم أن لا أب له ولا أم، ويزعم أن لا بداية له ولا نهاية، أي هو أزلي أبدي، يقول: «ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي…بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد» عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما، بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب حسب ما أورده متى ولوقا، في حين ملكي صادق قد تنـزه على ذلك كله؟
ومن هؤلاء الأزليين سليمان الحكيم حين قال عن نفسه: «أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير…الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئت، قبل التلال أبدئت …» الأمثال 8/12-25).
وقول بعض النصارى أنه كان يتحدث عن المسيح لا دليل عليه. فسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس، كما في سفر الأيام «مبارك الرب إله إسرائيل الذي صنع السماء والأرض، الذي أعطى داود الملك ابناً حكيماً صاحب معرفة وفهم، الذي يبني بيتاً للرب وبيتاً لملكه» أيام -2- 2/12).
وكلمة «منذ الأزل مسحت» لا تدل على المسيح، إذ «المسيح» لقب أطلق على كثيرين غير المسيح عيسى ممن مسحهم الله ببركته من الأنبياء كداود وإشعيا المزمور 45/7، وإشعيا 61/1)، فلا وجه لتخصيص المسيح بهذا اللقب.
ثم إن الحكمة لم تطلق أصلاً على المسيح، ولم يختص بها، فلا وجه في الدلالة على ألوهية المسيح بهذا النص قطعاً.
أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون… انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال.
ثم في آخر هذا السفر مثل هذه العبارات صدرت عن أحد الملائكة كما يظهر من سياقها، وهو قوله: « أنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا.وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا. فقال لي: انظر لا تفعل. لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب.اسجد للّه.
وقال لي: لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.. وها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي. أنا الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر» الرؤيا 22/8-13) وليس في ظاهر النص ما يدل على انتقال الكلام من الملاك إلى المسيح أو غيره.
الله واحد أم ثلاثة_د. منقذ بن محمود السقار