وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح
في مؤتمر الفاتيكان الثاني المنعقد عام 1963م: انعقد المجمع لبحث موضوعات عديدة، تدور حول تقوية الوحدة المسيحية.
وفي الدورة الثانية منه: قدّم الألماني - الكاردينال بيا - وثيقة تعتبر الصورة التمهيدية للوثيقة التي صدرت فيما بعد، وتبرئ اليهود من دم المسيح.
وتنادي الوثيقة التمهيدية: باعتبار الشعب اليهودي جزءًا من الأمل المسيحي، وأنه لا يجوز أن ننسب إلى يهودِ عصرِنا ما ارتُكب من أعمال أيام المسيح، واحتج الكاردينال لكلامه بأن كثيرين من الشعب لم يكونوا يعرفون شيئاً عما حدث، ولم يوافق بعض قادة الشعب على فعل سائر الكهنة.
وقد عورضت الوثيقة داخل المجمع، لما فيها من اعتبارات سياسية، وطلب المطران الهندي -كوتنهو - حذفَها، وإضافة فصول عن الديانة الهندية والإسلامية، وكذلك عارض الوثيقةَ بعضُ كرادلة الشرق، كما عارضها الشبابُ الكاثوليك بالقدس، وأوضحوا أن ذلك ليس حقاً للمجمع ولاغيره، وطالبوا بتطبيق ما جاء في سِفر الخروج: « أنا الرب إلهك، إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء » الخروج 20/15 .
واستشهد القس إبراهيم سعيد - رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين - بنصوص الإنجيل، التي تقرر أن اليهود طلبوا صلبه، ورفضوا إطلاق المسيح، وطلبوا إطلاق باراباس، وتولى رئيس الكهنة - قيافا - بعض الوِزر في ذلك. ثم إنهم قالوا: « دمه علينا وعلى أولادنا » متى 27/25 .
وقد قال بطرس لثلاثة آلاف من اليهود: « يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم » أعمال 2/36.
وتم تشكيل لجنة لتعديل الوثيقة، وعّدلت، وصدرت في أكتوبر 1965م وثيقة تبرئة اليهود. ومما تضمنته هذه الوثيقة « فإن ما ارتكب أثناء آلامه: لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا عائشين إذ ذاك، ولا إلى يهود أيامنا » .
ويقول الكاردينال - بيا - عن هذه الوثيقة: « ليست هذه الوثيقة ثمرة يوم أو ليلة، إنها خلاصة دراسة » ، وقد وقع البابا يوحنا الثالث والعشرون عليها قبل وفاته بخمسة أشهر، لتصبح وثيقة دينية معتبرة، ومعتمدة من أهم المراجع النصرانية.
وقد أراد - بيا من وثيقته التمهيدية تبرئة العنصر اليهودي من صلب المسيح.
ولكن الوثيقة النهائية الرسمية أقرت بدور اليهود وبراءة الرومان وبرأت الأجيال اليهودية اللاحقة من تولي وزر هذه الجريمة، كما أنها حاولت حصر الجريمة في أقل عدد ممكن من الكهنة ورؤساء الشعب اليهودي، « فإن ما ارتكب أثناء آلامه، لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا عائشين إذ ذاك، ولا إلى يهود أيامنا » .
وتعود الوثيقة للحديث عن آلام المسيح المصلوب، فتقول: «ما حصل للمسيح من عذابه لا يمكن أن يعزى لجميع الشعب اليهودي.. فإن الكنيسة كانت ولا تزال تعتقد بأن المسيح قد مر بعذابه وقتله بحربة بسبب ذنوب جميع البشر، ونتيجة حُبٍ لا حدَّ له » .
ونلحظ في هذه الوثيقة تعارضاً صريحاً مع النصوص الإنجيلية، المصرحة بدور اليهود بقتل المسيح على الصليب، ومنها قول بولس: « اليهود الذين قتلوا الرب يسوع، وأنبياءهم، واضطهدونا نحن» تسالونيكي 1 - 2/15 .
وقد ذكرت الأناجيل دورهم، فهم الذين تآمر رؤساء كهنتهم، وهم الذين قدموا الرشوة ليهوذا، وأصروا وأصرت الجموع على صلب المسيح رغم براءته التي ظهرت لبيلاطس ؛ الذي قبل نصيحة زوجته، فتبرأ من دم هذا البار.
كيف يبرأ اليهود من دمه؛ ويوحنا يقول على لسان قيافا رئيس الكهنة: « أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تنكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها.. فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه » يوحنا 11/47 - 53 .
واليهود هم الذين أتوا بشهود الزور. ولما وجد بيلاطس أن لا جرم عليه، قال: « إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم : فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا » متى 27/24 - 25 .
ثم كيف للكنيسة أن تبرئ اليهود وذراريهم من دم المسيح، وهم قد قالوا لبيلاطس: « دمه علينا وعلى أولادنا ؟» متى 27/25 والمفروض أن النصارى يؤمنون بوراثة الذنب الذي أعلن أصحابه مسئوليتهم وأبناءهم عنه، ومن الممكن تصور وراثة ذنب اليهود دون ذنب آدم، أما العكس فلا، وألف لا.
ونتساءل عما يغسل خطيئة اليهود وقد صلبوا الرب-كما زعموا -، إذا علمنا أن خطيئة آدم لم يغسلها إلا دم المسيح ؟
وعندما نسجل هذا الاعتراض على النصرانية، فإنا نعلم براءة اليهود من دم المسيح، فقد أنجاه الله منهم، ولكن ذلك لا يبرئهم من الجريمة، ألا وهي سعيهم لقتل المسيح، فقد خططوا لصلبه، وتآمروا عليه، ومضوا في التنفيذ، فأخذوا مَن ظنوه المسيح، وصلبوه، وقتلوه، وهي في كل القوانين جريمة، والخطأ في شخص المجني عليه لا يغير من بشاعة جريمتهم كثيراً، من حيث نيتهم وما أرادوا فعله.