السجود للمسيح
وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة «فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له » متى 9/18)، كما سجد له الأبرص «إذا أبرص قد جاء وسجد له » متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته « فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم » متى 2/11 ).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له : «قم أنا أيضاً إنسان» أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكنه لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقائه « وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا. وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا » التكوين 33/3-7).
كما سجد موسى عليه السلام لحماه حين جاء من مديان لزيارته «فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله» خروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلاً لا عبادة لأخيهم يوسف « أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض» التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل « وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك » الأيام -2- 24/7).
وكل هذه الصور وغيرها لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح، فيما كان رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما بسبب أن مثل هؤلاء قد يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.
النصوص المناقضة لألوهية المسيح
رأى المحققون أن الأحوال البشرية المختلفة التي رافقت المسيح طوال حياته تمنع قول النصارى أن المسيح هو الله أو ابنه، إذ لا يليق بالإله أن يولد ويأكل ويشرب ويختن ويضرب و….ثم يموت.
ولا يشفع للنصارى قولهم بأن هذه الأفعال صدرت من الناسوت لا اللاهوت، لأنهم لا يقولون بأن تجسد الإله في المسيح كان كالجبة أو العمامة يلبسها المسيح أحياناً، وينزعها أخرى، فما صدر منه إنما صدر من الإله المتجسد كما زعموا، وإلا لزمهم الاعتراف ببشريته، وهو الصحيح.
وأورد المحققون عشرات النصوص التي تتحدث عن ضعف المسيح البشري وتحكي قعوده عن مرتبة الألوهية، وهي على ضروب أربعة:
«الضرب الأول» هو تلك النصوص التي تبين عجز المسيح، وقعوده عن مقام الألوهية والربوبية، وعليه فهو ليس بإنسان تام وإله تام كما يقول النصارى، إنما كان فقط إنساناً تاماً.و في ذلك نصوص كثيرة
منها جهل المسيح بأشياء كثيرة أهمها جهله بيوم القيامة، فقد قال: « أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب.» مرقس 13/32) فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته، فالجهل بالغيب مبطل لها.
وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعاذر يسأله « فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ » يوحنا 11/33-34).
ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون « فسأل أباه كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه.» مرقس 9/11)
والمسيح أيضاً وهو يظهر معجزاته الباهرة يشير إلى افتقاره لله وعجزه عن هذه المعجزات لولا معية الله ونصرته فيقول: « أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني» يوحنا 5/30).
ويؤكد هذا المعنى فيقول: « قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه » يوحنا 8/28).
وفي نص آخر يقول لليهود: « الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك» يوحنا 5/19).
والمسيح أيضاً لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره _ نفعاً ولا ضراً إلا أن يتغمده الله برحمته، وقد كان، إذ لما جاءته أم ابني زبدى وكانا من تلاميذه « فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي » متى 20/20-22).
كما وقد وصف المسيح نفسه بصفة العبودية، ومن ذلك ما جاء في متى في وصف المسيح «هذا هو عبدي» متى 12/18)، وفي سفر أعمال الرسل «قد مجد عبده يسوع» أعمال3/13)، « فإليكم أولاً أرسل الله عبده» أعمال 3/26)، «عبدك القديس يسوع » أعمال 4/30).
وقد استبدلت لفظة «عبد» بجميع هذه النصوص بكلمة «فتى» موهمة، وذلك في التراجم العربية المختلفة.
«الضرب الثاني» هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و…..
درس المحققون سيرة المسيح-كما عرضتها الأناجيل- منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر… فوجدوا أن لا يفترق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره ؟
فقد ولد من فرج امرأة «وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد» . لوقا 6/2)، ورضع من ثدييها «وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما» . لوقا 27/11)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك.
وقد ختن المسيح في ثامن أيام ولادته «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع » لوقا 2/21) فهل كان الذي يختنه يدور في خلده أنه يختن إلهاً؟.
كما عمده يوحنا المعمدان في نهر الأردن « جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه» متى 13/3)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله، ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: « واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.. أنا أعمدكم بماء للتوبة... حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه» متى 3/6-14)
فهل كان الإله مذنباً يبحث عن من يغفر له ذنوبه؟!
وأصاب المسيح ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام « وكان هو نائماً» متى 24/8)، وتعب كسائر البشر « كان يسوع قد تعب من السفر» يوحنا 6/4)، واكتئب لما أصابه « وابتدأ يدهش ويكتئب» . مرقس 33/14).
وأحياناً كان يبكي كسائر الناس «بكى يسوع» يوحنا 11/35)، أحياناً يجتمع عليه الحزن والاكتئاب «وابتدأ يحزن ويكتئب » متى 26/37)
كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه فلم يقدر «قال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع :اذهب يا شيطان» متى 4/9-10)، وتعرض للطم والشتم « ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً» يوحنا 22/18)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً «قبضوا على يسوع وأوثقوه» يوحنا 8/12).
والمسيح قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله «وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع» . متى 18/21)، كما عطش « قال: أنا عطشان» . يوحنا 28/19).
وقد أكل وشرب، فسد جوعته وروى ظمأه « فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم» لوقا 24/42-43).
والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً « وكان الصبي ينمو » لوقا 2/40)، ونموه كان بالجسد والعقل « وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس» لوقا 2/52)، فالطعام ينميه جسدياً والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً « وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسأله» لوقا 2/46).
كما يقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تنسب لمقام الألوهية، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهو مفهوم قوله تعالى « ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام» فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها لله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.
وتذكر الأناجيل حزن المسيح ليلة الصلب وغيرها « إن نفسي حزينة حتى الموت » مرقس 14/32-36).
ثم لما جزع من اليهود ظهر له ملك من السماء ليقويه انظر لوقا 22/43).
ثم لما وضع – حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: « إلهي إلهي، لم تركتني » مرقس 15/34).
بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ «فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح» مرقس 37/15).
ولا يجد الأسقف ترتليان - ق3 - ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: « لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل » ، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.
وذكرت الأناجيل أيضاً تذلـله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه « وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت» متى 26/39). « وكان يصلّي هناك» . مرقس 35/1).
ويصور لوقا صلاته، فيقول: « جثا على ركبتيه وصلى» لوقا 22/41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ « خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه» لوقا 6/12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟
ومن تضرعه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عندما أحيا لعاذر « ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت.ليؤمنوا أنك أرسلتني» يوحنا 11/40-41 ).
وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا: «وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه» لوقا 22/44).
ويتحدث بولس عن انتصار المسيح على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول: «متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل لله ، كي يكون الله الكل في الكل» كورنثوس -1- 15/28)
والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته لله أو للمتحد معه، إذ الأناجيل شهدت بعبوديته والتزامه بناموس موسى عليه السلام في سائر أحواله.
وجماع هذا كله قوله عن نفسه: «وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله » يوحنا 8/40)، أفلا نقبل شهادته عن نفسه، فلو كان إلهاً لما صح منه أن يعمي علينا هذه الحقيقة بمثل هذا القول الصريح الدال على إنسانيته.
وأخيراً فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: «في بيت أبي منازل كثيرة… أنا أمضي لأعد لكم مكاناً….حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً » يوحنا 14/2 – 3)، قال: « إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي» متى 26/29).
ومن المعلوم أن ملكوت الله يراد به هنا الجنة، حيث يلقى التلاميذ من جديد، فيشرب معهم في جنة الله، فهل سيتجسد الابن ثانية يوم القيامة؟ وما الحكمة من التجسد حينذاك؟ أم أن المسيح سيعود ككائن بشري عادي يأكل كسائر المؤمنين.
وحين يصر النصارى على القول بألوهيته فإنهم يضربون بعرض الحائط قول المسيح وتلاميذه، ويتنكرون بذلك لكل هذه النصوص التي لم تتحدث أبداًَ عن إله متجسد، ولا عن ناسوت حل به الله.
وبذا يكون النصارى قد وقعوا فيما حذر منه مقدسهم بولس الذي ألبسهم هذه العقيدة ثم تبرأ منهم ومن صنيعهم، حيث قال: « إنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى، بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم. الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتقوا، وعبدوا المخلوق دون الخالق، الذي هو مبارك إلى الأبد » رومية 1/21-25).
«الضرب الثالث» هو النصوص التي بينت ذهول معاصريه من حوارييه وأعدائه عن فكرة ألوهيته وربوبيته، مما يدل على أن الفكرة لا علاقة لها بالمسيح ولا أتباعه. بل هي من مخترعات لاحقة لذلك العهد، وذلك يكفي للإعلان عن بطلانها. وفي ذلك نصوص كثيرة منها:
- جهل أمه بألوهيته، لما كان المسيح راجعاً مع والدته ويوسف النجار حصل ما يدل على جهل والدته بمقامه، فإن جهلت والدته ألوهيته، فمن ذا الذي يعلمها، فقد جاء في لوقا «وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما، إذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل بين المعلمين يسمعهم ويسألهم … يا بني لماذا فعلت بنا هكذا ؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين» لوقا 2/41-48).
ويذكر يوحنا أن المسيح لما صلب ذهبت والدته لتذرف عليه الدمع. انظر يوحنا 19/25)، أفلم تكن تعلم حين ذاك أن ولدها هو الله أو ابنه، وأن الموت لا يضيره؟
- ويقول شمعون الصفا -بطرس- وهو أقرب التلاميذ إلى المسيح: « أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه.» أعمال الرسل 2/22)، فلم يشر في خطبته المهمة إلى شيء من الألوهية للمسيح.
وهو ما نجده أيضاً عند غير شمعون فقد عرض المسيح بعد الصلب المزعوم لرجلين من أصحابه قد حزنا عليه، فسألهما عن سبب حزنهما فقالا: « يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت، وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل.» لوقا 24/19-21)، فليس في قولهما حديث عن ناسوت مقتول، ولا عن لاهوت متجسد نجا من الموت.
وأيضاً عجب منه تلاميذه لما رأوا بعض معجزاته، ولو كانوا يرونه إلهاً لما كان في معجزاته أي عجب، فقد مر يسوع عليه السلام بالشجرة وقد جاع فقصدها، فلم يجد فيها سوى الورق. فقال : لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست الشجرة لوقتها، فتعجب التلاميذ «قال لها: لا يكون منك ثمر بعد إلى الأبد، فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال...» متى-21- 18-22). فدل عجبهم على أنهم كانوا لا يدركون شيئاً مما تعتقده النصارى اليوم من ألوهية المسيح، وإلا فإن إيباس الإله للشجرة ليس فيه ما يدعو لأي عجب.
وهذا يوحنا المعمداني - يحيى - الذي لم تقم النساء عن مثله انظر متى 11/11)، يرسل إلى المسيح رسلاً بعد أن عمده ليسألوه « أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه. وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يعثر في» متى11/3-6).
فيحيى المعمداني مع جلالة أمره لم يظن في المسيح أنه أكثر من النبي المنتظر الذي كانت تنتظره بنو إسرائيل. وإجابة المسيح لا تدل بحال على ألوهية، فقد أخبر بمعجزات نبوته، ثم عقب بالتحذير من الغلو فيه -كفعل النصارى – أو التفريط كفعل اليهود الذين كذبوه وآذوه وهموا بقتله.
وقال يوحنا مبيناً اعتقاده نبوة المسيح: « طوبى للذي يقرأ، وللذين يسمعون أقوال النبوة» الرؤيا 1/3).
ثم لما جاءته المرأة السامرية قالت له بعد أن رأت قدراته وأعاجيبه: « قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي» انظر يوحنا 4/19)، وما زادت على ذلك، فما صحح لها معتقدها، فكان هذا معتقداً يعتقده عامة الناس كما اعتقده تلاميذ المسيح وحواريوه.
وكذا لما دخل أورشليم « فقالت الجموع: هذا يسوع النبي» . متى 21/11).
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه «فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له: يسوع» يوحنا 9/10-11)
ثم إن كان المسيح إلهاً متجسداً فكيف نفهم تبريراً لخيانة يهوذا؟ وهل يخان الإله؟ وكيف نفهم بطرس إنكار بطرس له ثلاث مرات؟
بل إن كل ما قيل في سيرة المسيح يصعب فهمه مع القول بألوهيته، ويترك علامات استفهام لا إجابة عنها.
وهاهم أعداؤه من اليهود يلاحقونه، ويطلبون منه آية، فأخبرهم بأنه لن تأتيهم سوى آية يونان النبي يونس ) «أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلّم نريد إن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي» متى 12/38-39).
واليهود ولا ريب يبحثون عن آية تدل على نبوته التي يدعوهم إلى الإيمان بها، ولو كان ما يدعو إليه الألوهية لما رضوا منه بمثل آية يونان، بل ولطالبوه بآيات أعظم من آية يونان، وغيره من الأنبياء.
ولما أرادوا قتله كانت جريمته عندهم دعواه النبوة لا الربوبية، فقد قالوا لنيقوديموس: «ألعلك أنت أيضاً من الجليل. فتّش وانظر. إنه لم يقم نبي من الجليل.» يوحنا 7/52).
والشيطان أيضاً لم ير المسيح إلا بشراً، لذلك فقد حصره في الجبل أربعين يوماً من غير طعام ولا شراب، وهو في ذلك يمتحنه ويمنيه بإعطائه الدنيا في مقابل سجدة واحدة له «أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها. وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» متى 4/9-10)، فهل كان الشيطان يعد الرب بالدنيا؟!!.
ثم إن بشرية المسيح موجودة ليس في أقوال معاصريه بل حتى في النبوءات السابقة التي يؤمن النصارى بها، ويقولون أنها تحققت فيه عليه السلام، فهذه النبوءات لم تتنبأ بقيام رب أو إله، وإنما تنبأت بنبي ورسول صالح.
من ذلك ما جاء في كلام عاموس النبي «قال الرب: من أجل ذنوب إسرائيل الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنهم باعوا البار بالفضة...» انظر عاموس 2/6)، فهو لم يقل: في بيعهم إياي، ولا بيع إله متساو معي، بل سماه باراً، وهو وصف يقتضي كمال العبودية لله.
«الضرب الرابع» النصوص التي شهدت للمسيح بالنبوة، وإثبات النبوة والرسالة له مبطل للألوهية.
من هذه النصوص قوله: « أنتم تدعونني معلّما وسيّداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك» يوحنا 13/13) وقد شاع تسميته عندهم بالمعلم، «وقال له: يا معلم » مرقس 10/20)، أفكان من حسن الأدب أن يترك التلاميذ نداءه بالألوهية وأن ينادوه بهذا النداء المتواضع: معلم.
وقد بدأت نبوته، وهو في سن الثلاثين «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة » لوقا 3/23).
وشهد المسيح لربه بالوحدانية، ولنفسه بالرسالة، فقال: « أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته » يوحنا 17/3).
ونحوه قوله عن نفسه: « فكانوا يعثرون به. وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته» متى 13/57)، فاعتبر نفسه كسائر الأنبياء لا يعرف أقوامهم لهم قدرهم.
ولما خوفه الفريسيون من هيرودس قال لهم: « ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم. يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين» لوقا 13/33-34).
ولما أظهر المعجزات لقومه قرنها بدعوى نبوته قائلاً وهو يناجي الله: « ولكن أسألك من أجل هذه الجماعة، ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني » يوحنا11/26).
ولما أرادوا قتله قال: « تريدون قتلي، وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله » يوحنا 8/40).
ولما بعث تلاميذه للدعوة قال لهم: « فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم.كما أرسلني الآب أرسلكم أنا» يوحنا 20/21).
وأكد رسالته بقوله: « الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم » يوحنا 14/2 – 3).
وهو في كل ما يقوله عن الله معصوم لأنه ينطق بالوحي، فقد قال: «الكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني» يوحنا 14/28)، وفي موضع آخر: «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» يوحنا 7/16). وقال: « ولا رسول أعظم من مرسله » يوحنا 13/16)
ومما يبطل قول النصارى بألوهية المسيح النصوص التي جعلته رسولاً خاصاً إلى بني إسرائيل، والإله لا يكون خاصاً بأمة دون أمة.
ومن ذلك قوله: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة » متى10/6).
ومثله قصة المرأة الكنعانية التي رفض شفاء ابنتها لأنها ليست من شعبه انظر متى 15/21-28).
ومثله الوعد الذي وعِده كما جاء في لوقا «وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على آل يعقوب إلى الأبد» لوقا1/32-33)، فهل هو إله خاص ببني إسرائيل، فلو كان إلهاً لما صح اختصاصه بشعب دون شعب، فهذا شأن الأنبياء.
ولما خاطب أورشليم التي تدعي النصارى قتله وصلبه فيها قال لها: « يا قاتلة الأنبياء، كم من مرة أريد أن أجمع بنيك حولك » متى 33/37) فلم يقل لها :يا قاتلة الإله. فذلك أبلغ لو صح. بل أراد أنكم تريدون قتلي كما قتلتم غيري من الأنبياء.
ونبوته هي معتقد الناس عامة فيه، وقد صرحوا بذلك أمامه فلم يخطئهم، فعندما أحيا المسيح ابن الأرملة في نايين « أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه» لوقا 7/13).
ولما أطعم الخمسة آلاف إنسان من خمسة أرغفة قالوا: « فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» يوحنا 6/14).
وقد قال بولس معترفاً برسالته وبشريته: «لأنه يوجد إله واحد، ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح» تيموثاوس -1- 2/5).
وهكذا رأينا من الضروب الأربعة ما قام فيه دليل وبرهان واضح على عبودية المسيح لله، وأنه رسول عظيم من لدن ربه جل وعلا.
الله واحد أم ثلاثة_د. منقذ بن محمود السقار